مع قدوم شهر رمضان، تعيش مدن الضفة الغربية وأريافها ومخيماتها، أجواء غير مسبوقة عمّا شهدتها الأعوام الماضية. فقد سبقت هذا الشهر تحذيراتٌ أمنية متصاعدة بأن شهر الصيام سيشهد تصاعداً في العمل العسكري المقاوم ضد قوات الاحتلال.ولذا، تداعت القوى الدولية والإقليمية إلى جمع الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، على مائدة قمّتين أمنيّتين في مدينة العقبة الأردنية ومدينة شرم الشيخ المصرية، لإيجاد تصوّر أمني، لضبط إيقاع العمل الفلسطيني المقاوم. لم تتجاوز مخرجات القمتين الأمنيّتين البعدَ الأمني، إلا قيادات السلطة، حاولت أن تروّج في الإعلام أن للقمتين بعداً سياسياً، على الرغم من أن الاحتلال كذّب هذا الكلام، والوقائع على الأرض أكدت ذلك أكثر وأكثر. إلا أن السلطة تصرّ على وجود بعد سياسي للقمتين، الأمر الذي يراه متابعون للشأن الفلسطيني محاولة من السلطة لإيجاد تبرير لفعلها الأمني.
ومع دخول شهر رمضان أسبوعه الأول، يظهر جلياً ازدياد الغارات الاحتلالية اليومية، التي تركزت في مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية المحتلة، حيث تقوم قوات الاحتلال مع ساعات الفجر الأولى باقتحام تلك المناطق، وتنفيذ عمليات اعتقال لمن تسمّيهم مطلوبين لديها، وغالباً ما تواجه تلك الاقتحامات بمقاومة مسلحة، تتفاوت حدّتها من منطقة إلى أخرى، مع تنفيذ عمليات اعتقال كثيفة.

أسواق بلا متسوّقين
كثيراً ما يملأ عشرات الآلاف من فلسطينيّي الداخل وفلسطينيّي القدس، شوارع المدن الفلسطينية في الضفة الغربية طوال العام، ويزداد حضورهم في شهر رمضان، لكن هذه السنة، ونتيجة الحصار المضروب على الضفة الغربية، لم يتمكن أهل الداخل المحتل من التسوق داخل أسواق الضفة الغربية، ولا سيما في شمالها، الأمر الذي انعكس على أجواء تلك الأسواق، وحركتها الاقتصادية، فيما التداعيات التي يفرضها الحصار على تلك المناطق آخذة في التوسع، لتشمل شرائح اجتماعية جديدة يطالها هذا الحصار. ويوضح الناشط الاجتماعي من نابلس منتصر عرايشي، لـ«الأخبار»، الأوضاع في مدينته: «إنها خليط ما بين الشعور بالفخر، نتيجة تصاعد وتأثيرات عمل المقاومة، وفي الوقت نفسه هناك الصعوبات الاقتصادية الملموسة والمؤثرة على حياة المواطنين». ويبيّن عرايشي كيف ينعكس الحصار ويؤثر على حياة الناس في أيام الشهر الفضيل: «الحصار ليس فقط على حدود الضفة، إنه حصار لكل منطقة، فنابلس معزولة اليوم عن أريافها، عشرات الحواجز العسكرية تقطع أوصالها»، والهدف «رسالة الاحتلال للكل الفلسطيني، أن هناك ثمناً ملموساً على الصعيد المعيشي، كلما كان الفعل المقاوم حاضراً». لكنه تكلم بلسان حال الناس، فسخر من هذه المعادلة، موضحاً أنه «كي تعيش، عليك أن تخضع لكل شروط المحتل، وهي في المحصلة النهائية موت معلن». أمام كل هذه الأوضاع الصعبة، يؤكد عرايشي أن أهالي نابلس، على سبيل المثال، لم يخضعوا، فانطلقت عدة حملات تطوعية، للمساعدة في التخفيف عن كاهل الفقراء، عبر إرسال السلل الغذائية والوجبات إلى العائلات المحتاجة، التي تقوم بها التكيات والمبادرات الفردية، المموّلة من قبل التجار ورؤوس الأموال في المدينة.
لرمضان طقوس وشعائر وعادات وتقاليد في كل بلاد المسلمين والعالم، لكن لفلسطين خصوصيّتها؛ فهي التي تحت الاحتلال، وهي التي تحمل عبء المقاومة منذ عقود طويلة


التكية... تجربة فلسطينية في رمضان
بدأت مدينة الخليل منذ مئات السنين تجربة التكية، حيث يقوم مطبخ، بشكل يومي، على مدار السنة، بتوزيع آلاف الوجبات الغذائية، على فقراء المدينة، وقد حملت الخليل لقب «المدينة التي لا ينام فيها جائع»، لكن هذه التجربة بقيت محصورة في مدينة الخليل، ولم تصل إلى عموم المدن الفلسطينية إلا في السنوات الأخيرة. في المخيمات مثلاً، تأسّست عدة تكيات، منها تكيّة «نيسان» التي تأسست في مخيم جنين منذ ثلاث سنوات، وتعمل عادة في شهر رمضان. يشرح عنها لـ«الأخبار» الناشط المجتمعي سامر الغالب، من جنين: «التكية، خلاصة العمل الإغاثي السابق، يتركز عملها اليوم ضمن مجموعة تطوعية واحدة، تهدف إلى إيصال المساعدات العينية والغذائية إلى كل الفقراء، بعيداً عن التجارب السابقة، والمجموعة الطوعية، هي الوسيط بين تجار وأغنياء المحافظة والمساهمين الصغار فيها، وبين المحتاجين إلى تلك المساعدة». تكية «نيسان» التي سمّيت كذلك تيمّناً بالشهر الذي شهد معركة المخيم الشهيرة عام 2002، تقدّم اليوم نحو 1250 وجبة إفطار، عن أرواح الشهداء وإكراماً لهم، ولا سيما أن المخيم وجنين عموماً يشهدان أوضاعاً صعبة، ولا سيما باستشهاد وجرح العشرات، فضلاً عن المطارَدين والمعتقلين، وقوائم المنع الأمني التي تطال أقارب المطاردين والشهداء من الدرجة الأولى والثانية، والتي تمنعهم من العمل. هذه الأوضاع، أثّرت كثيراً على معيشة العائلات. ويوضح سامر الغالب أن هذه الأوضاع فرضت إيقاعها على طريقة عمل التكية لناحية «المهنية في العمل، والابتعاد عن كل مقياس حزبي أو تنظيمي، الأمر الذي جعل من التكية محط إجماع، ولحظة نجاح في الوقت نفسه».
صحيح أن لرمضان طقوساً وشعائر وعادات وتقاليد في كل بلاد المسلمين والعالم، لكن لفلسطين خصوصيتها؛ فهي التي تحت الاحتلال، وهي التي تحمل عبء المقاومة منذ عقود طويلة، وهي التي تذود بأبنائها، دفاعاً عن القبلة الأولى للمسلمين وعن ثالث الحرمين الشريفين. لهذا نرى تلك الاندفاعة الرمضانية، نحو زيارة الأقصى الذي تحوّل إلى عقيدة وهوية وطنية جامعة، فلا ينتهي الشهر حتى يزوره معظم الشعب الفلسطيني من الضفة ومناطق 48، سواء من أمام الحواجز العسكرية أو من خلفها، فلا فرق، طالما أن الزيارة مقدّسة وواجبة في شهر رمضان، وذلك حتى تكتمل رسالة الوطن مع رسالة السماء.