روائح الطعام المصنوع بحب، أصوات قادمة من بيوت دافئة، تسابق الزمن في إعداد الفطور، وأناشيد دينية تملأ الشوارع، تعبّر عن الابتهال بالشهر الكريم «رمضان تجلى وابتسم طوبى للعبد إذا ابتذل».، أطفال وشبان في مقتبل العمر يقفون في الحارات، يعدّون الدقائق لرفع الأذان من مآذن جوامع المخيم، ليعلنوا على طريقتهم انتهاء يوم آخر من رمضان، بإشعال ما جمعوه من الألعاب النارية خلال ساعات النهار، الأمر الذي يتصاحب مع لوم وتوبيخ من شيوخ ومسنين في المخيم. وغالباً ما كانت تبدأ تلك المناقشات بـ«وفروا فتيشكون لليهود يا عمي...» لتنتهي بـ«الله يهديكون...».هكذا كان مخيم اليرموك قبل نحو عقد، خلال أيام الشهر الفضيل، منذ يومه الأول وحتى رفع تكبيرات العيد، يعيش حالة أشبه بـ«عرس رمضان». فمنذ اليوم الأول تمتلئ شوارعه ببائعين، اعتاد أهل المخيم على رؤيتهم في كل موسم رمضاني، يشغلون زوايا المخيم، ويرفعون أصواتهم التي تنادي على الصائمين لشراء ما لذ وطاب «طفي عطشك يا صايم... قرب قرب»، «فطور الصايم يا معروك»، «عصافيري يا قطايف»، «أكلة الملوك يا ناعم»، وكل بائع يغني على بضاعته. فيما تدخل محال الحلويات في سباق مع الزمن لإنتاج الحلويات، التي اعتاد أهالي المخيم على طلبها لتزيين موائدهم الرمضانية. ومساءً بعد الإفطار، كان المخيم يتحوّل، بشوارعه الرئيسية وحاراته، إلى مركز تجاري ضخم، يقصده سكان العاصمة السورية، لشراء احتياجاتهم من تجهيزات للعيد، وبأسعار منافسة لأكبر الأسواق الدمشقية.

بأي حال عدت يا رمضان
تبدل حال المخيم، أصبح الدمار، هو الثيمة الأساسية التي تسرق نظر أي زائر له بعد الحرب التي شهدها، فالمخيم اليوم تسكنه قلة من العائلات التي عملت على ترميم منازلها، بأبسط الإمكانيات، وبعضها سكنت من دون أن ترمم، بعدما أنهكتها أسعار الإيجارات.
لم يعد شهر رمضان في المخيم، كما كان، تغيب عنه هذه الأيام تلك الطقوس الرمضانية التي عهدها، فليس سهلاً التقاط روائح الطعام وأصوات الأناشيد والباعة، والأسواق التي كانت في العشر الأخيرة من رمضان لا تغلق أبوابها، اليوم خاوية تماماً. فلا أحد في المخيم سوى بعض المارة، الذين تبدو في وجوههم آثار التعب.
عند مدخل شارع لوبية الشهير، الذي كان يوماً، أحد أهم أسواق العاصمة السورية، يتجمع بعض أهالي المخيم يومياً، في رمضان، للحصول على وجبة إفطار تقدمها لجنة العمل الخيري في حركة الجهاد الإسلامي للعوائل التي تقطن اليرموك. يقول مسؤول اللجنة موسى خال: «بدأنا في ثالث أيام شهر رمضان، بمشروع توزيع وجبات إفطار صائم في مخيم اليرموك، الذي يستهدف جميع سكان المخيم، البالغ عددهم 1600 عائلة. نعد ثماني أصناف طعام يومياً، بمشاركة 50 متطوعاً يعملون بلا توقف على مدار الـ 24 ساعة لتأمين الوجبات».
يبين خالد أن توزيع الوجبات يبدأ يومياً عند الساعة الثانية ظهراً وينتهي الساعة السادسة مساء، لتخديم جميع سكان مخيم اليرموك. ويشير إلى استمرار المشروع حتى آخر يوم في رمضان، «مشروع إفطار صائم، ينفذ للسنة الثانية على التوالي في مخيم اليرموك، ففي رمضان الماضي، كان عدد عائلات مخيم اليرموك 800 عائلة، واستهدفوا جميعهم بشكل يومي، عبر تقديم اللجنة وجبات تكفي عائلة كاملة». ويوضح خالد لـ«الأخبار» أن المشروع هذا العام يؤمن «1600 وجبة عائلية، توزع على الأهالي ضمن فترات معينة. وتم تنظيم الأمور هذه السنة، بالاعتماد على آلية جديدة تم استحداثها، وهي عبارة عن بطاقة (بار كود)، وزعناها على العائلات، لتنظيم وتسهيل العمل. يأتي المستفيد ومعه بطاقته، ليتسلم حصة العائلة، ضمن الفترة المحددة له خلال النهار».
ينوه خالد إلى أن لجنة العمل الخيري في «الجهاد الإسلامي» تعمل هذه الأيام، على إعداد دراسة، لاستمرار المطبخ بتقديم الوجبات بعد انتهاء شهر رمضان، لكن بشكل غير يومي (يوم أو يومين في الأسبوع) في المرحلة الأولى وفق الإمكانيات المتاحة، ويضيف أن مشروع تقديم الوجبات، هو أحد المشاريع التي تنفذها اللجنة داخل مخيم اليرموك، يضاف إليها مشروع توزيع «كراتين» الأغذية للعائلات وتنظيف الشوارع والحارات وتركيب نقاط الإنارة الضوئية ضمن المخيم، وغيرها من المشاريع التي تساعد القاطنين في المخيم في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها.

«كان المخيم جنة»
بهذه العبارة، وصفت الحاجة فاطمة حالة مخيم اليرموك في رمضان قبل وصول الحرب إليه، تضيف «كان مثل خلية النحل، تجد الناس قبل الإفطار، ينتشرون في أسواق بيع الخضروات، وأمام محال الحلويات والعصائر، وبعد الإفطار وأداء صلاة التراويح، لا تجد موطئ قدم في أسواق شوارع اليرموك ولوبية وصفد من شدة الازدحام».
الحاجة فاطمة التي تسكن بيتها المدمر في المخيم، كانت تسير يومياً إلى خارج المخيم لتأمين احتياجاتها اليومية اللازمة، لكن مع افتتاح أحد الأسواق الخيرية في مدخل المخيم في بداية شهر رمضان، باتت تقصده لشراء معظم احتياجاتها، وقالت لنا «السوق وفر علينا القليل من المشي، بتنا نأتي إليه، نستكمل الأشياء التي لا نجدها في السوق من منطقة الزاهرة القريبة».
«السوق الخيري» الذي أقيم عند مدخل شارع فلسطين، افتتحته جمعية «نور للإغاثة والتنمية» بالتعاون مع محافظة دمشق، ويقول عنه رئيس مجلس إدارة «نور» محمد جلبوط: «هذه السوق، تأتي ضمن خطة التعافي التي أطلقتها الجمعية في مخيم اليرموك، قمنا بعمليات تنظيف لمدخل المخيم بشكل كامل، وأعدنا تجهيزه، وأزلنا الردم والخردة التي كانت موجودة، ثم افتتحنا سوق رمضان الخيري، والفكرة من السوق تقديم فرصة لسكان المخيم، للوصول إلى نقطة بيع مركزية داخل المخيم، تلبي احتياجاتهم بأقل الأسعار». ويشير جلبوط إلى أن الجمعية تقوم بالدعم اللوجستي لوصول المنتجات إلى السوق داخل المخيم، وكذلك تأمين المتطوعين لتقديمها للناس.
تعمل جمعية «نور» أيضاً، على تقديم الخدمة الطبية مجاناً، في مركز «نور الطبي» داخل المخيم، الذي افتتح بالتزامن مع السوق الخيري في بداية شهر رمضان، وهنا يوضح رئيس مجلس إدارة الجمعية لـ«الأخبار» أن المركز «يقدم ثلاث خدمات، المعاينة والكشف ضمن العيادات، والأدوية اللازمة مجاناً، إضافة إلى خدمات الإحالة إلى مستشفيات دمشق القريبة من المخيم، لأي حالة ولادة أو تحاليل في المختبرات أو تصوير شعاعي».
عادة ما تحصل انتقادات لأي عمل أو مبادرة، إمّا من بوابة النقد للنقد، وإمّا للتطوير والتحسين، ومبادرة تحسين مظهر مدخل المخيم، التي قامت بها «نور» طاولتها مثل هذه الانتقادات من الجانبين، لكن رئيس مجلس إدارة الجمعية له وجهة نظر أخرى بتحسين الوضع الحالي في المخيم، سواء ما قامت به «نور» أو ما يقوم به السكان حالياً، «في أي خطة تعافٍ يجب أن يعاد الاعتبار للحياة، واليوم نعمل مع الشركاء على تنظيف المخيم، بينما الجهات الحكومية تعمل على إصلاح شبكات الصرف الصحي والمياه والكهرباء. والمبادرات المجتمعية الأهلية والمحلية تعمل بحسب إمكانياتها، ونحن بحاجة لتضافر الجهود، وإصلاح مدخل المخيم، له علاقة بإحساس الأمان، واستقرار الوضع، وأن هناك خطوات جدية تحدث على الأرض».

يحل مساء المخيم ولا أحد
تدق الساعة السادسة في مخيم اليرموك، فتغيب الحركة بشكل كامل، وينتظر الأهالي دخول موعد الإفطار داخل بيوتهم، مع ما تيسر لهم تأمينه من طعام وشراب، ويقيمون صلاة التراويح، الطقس الديني الأشهر في رمضان، داخل بيوتهم، ومن استطاع السير يقصد أحد المساجد خارج المخيم سيراً على الأقدام. يقول العم مصطفى لـ«الأخبار»: «كان المخيم بعد الإفطار، يمتلئ بأصوات التكبيرات خلال إقامة صلوات التراويح في المساجد، التي كانت تنتشر بين حارات المخيم، أمّا اليوم وبعد تحوّل الجزء الأكبر من المخيم إلى خراب مهجور، لم نعد نسمع بعد الإفطار إلا أصوات نباح الكلاب الشاردة داخل الحارات. مع ذلك أخرج يومياً، على رغم الظلام الدامس ووعورة الطريق، إلى أحد مساجد منطقة الزاهرة القريبة، لأداء صلاة التراويح جماعة».
يقضي أهالي اليرموك لياليهم في عتمة حالكة، تكسرها بعض الإنارة الضعيفة من وسائل مختلفة، في ظل غياب الكهرباء، يتجمع الأهالي القريبون إلى بعضهم، يتبادلون الأحاديث، وبذلك، يخلقون دراما واقعية، تؤنس ليلهم وانتظارهم الطويل.