لا يختلف اثنان على أن الاتّفاق الإيراني - السعودي برعاية الصين، كما التقارب السعودي - السوري، هما ثمرة التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، لكن السؤال الذي تتعيّن الإجابة عليه لوضع الأمرَين، ومعهما مستقبل المنطقة، في السياق الصحيح، هو هل هذا التراجع كان طوعياً أم إكراهياً؟ على رغم أن النتيجة تبقى نفسها، على اعتبار أن ترتيب كلفة على التورّط الأميركي في الشرق الأوسط هو فعل مقاومة، غير أن الفارق يكمن في ما إذا كان التراجع استباقياً هدفه توفير أكلاف وإمكانات يمكن أن تستخدمها الإمبراطورية الأميركية في مكان آخر من أمكنة انتشارها على الكرة الأرضية، أم أنه اندحار إجباري وقع تحت الضغط المباشر ولم يكن ثمّة بدٌّ منه. ففي الحالة الأولى، يعني ذلك أن ثمّة وقتاً لدى الأميركيين للمفاضلة بين خيارات، وهو ما يبدو أنه واقع التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، بدليل أنه تراجع مبرمج بدأ بمحض إرادة أميركية بدت علاماتها كثيرة منذ انطلاق ما سُمّي «الربيع العربي» عام 2010، والذي اعتُبر بذاته مشروعاً أميركياً لاستبدال جلود الأنظمة الحاكمة، بأخرى تدور في فلك جماعة «الإخوان المسلمين»، بغرض التخفّف من أعباء التدخّل في هذه المنطقة. ولكن التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، لا يعني التخلّي عن المصالح الأميركية فيه. ففي العالم الجديد، لا تعني السيطرة وجود قوّات على الأرض في أيّ مكان من العالم. والصين هي الدليل، إذ إنها تنافس على السيطرة، من دون أن يكون لها جنديّ واحد خارج الحدود، باستثناءات قليلة مِن مِثل القاعدة الصينية المستحدثة في السنوات الأخيرة في جيبوتي. وحتى داخل حدودها، لم تلجأ الصين إلى استخدام القوة في حالات مِن مِثل استعادة هونغ كونغ. بل أكثر من ذلك، رضيت بأن يحتفظ سكّان هونغ كونغ بجنسياتهم البريطانية، وقبلت في المفاوضات - مع بريطانيا - السابقة للتسليم، بمنح وضع خاص لتلك المنطقة بعد التسليم. أيضاً، فإن التلويح بالقوة في حالة تايوان لم يترجَم في أيّ لحظة من اللحظات إلى أيّ نوع من أنواع الصدام العسكري. وكانت من آخر الحروب التي شاركت فيها الصين، الحرب الكورية بين عامَي 1950 و1953، ثمّ الحرب مع فيتنام عام 1979، أي في الزمن المواكب للتحوّل في السياسة الصينية، والذي بدأ مع دينغ سياو بينغ، وكان عنوانه المنافسة اقتصادياً على النفوذ في العالم. وهذا يحيلنا إلى ما يجري في المنطقة من تعديل للرهانات الاستراتيجية. وبالمعنى المتقدّم، يكون الاقتراب من الصين نوعاً من «استراتيجية التحوّط» للغياب الأميركي المفترَض، وليس ابتعاداً ابتدائياً قصدياً عن الولايات المتحدة التي لم تَعُد ترى لها مصلحة في تقديم خدمة الضمانات الأمنية مقابل أجر. وفي السياق نفسه، يندرج الاتفاق السعودي - الإيراني، وكذلك التقارب السعودي - السوري.
لا يعني اعتماد استراتيجية تحوّط من قِبَل المملكة، الانتقال إلى الموقع المعادي للولايات المتحدة


قد تكون الإجابة على سؤال آخر، مفيدة في توقُّع الأحداث المقبلة في هذه المنطقة النفطية الحسّاسة. السؤال هو: هل يتوقّع أهل المنطقة، وبالتحديد الخليجيون، من الصين أن تقدّم خدمة بديلة مماثلة لتلك التي كانت تقدّمها الولايات المتحدة، أي نشر قوات في المنطقة لضمان بقاء الأنظمة؟ الجواب الطبيعي هو لا. فلا الصين مستعدّة، ولا الدول الخليجية ترغب لأسباب كثيرة أهمّها أن الحجّة التي تُصدّرها بكين في تقديم نفسها بديلاً للخيار الأميركي، هي عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى، ومنه عدم التدخّل العسكري. ففي النهاية، عندما قُدّمت الضمانات الأميركية، أو لنقُل الغربية حتى نضع الأمر في سياقه التاريخي الصحيح، لم تكن الأنظمة موجودة بشكلها الراهن، بل كانت قبائل وعائلات تتصارع على الأرض والثروة، فيما الدول التي قامت لاحقاً، رُسمت حدودها بواسطة ذلك الاستعمار الذي مثّل الضمانة لانتصار قبائل وأُسر على أخرى. بمعنى آخر، لم تكن «الكفالة» بناءً على طلب من أنظمة المنطقة على طريقة الطلب من ضمن «لائحة طعام» في مطعم، بل كانت طلباً مدبّراً من قوى الاستعمار نفسه.
السياق التحليلي نفسه يقود إلى الظنّ بأن التغيّر في السياسة الأميركية، وهو تغيّر ثنائي الحزبية، يندرج في سياق رغبة أميركية في المنافسة على خيرات المنطقة والنفوذ فيها، بغير اعتماد الخيار العسكري المكلف. وحتى هذا الخيار البديل ليس انسحاباً تامّاً بالمعنى العسكري، فالوجود الأميركي في «قاعدة العُديد» القطرية، أو في «قاعدة علي السالم» الكويتية باقٍ، ولا يجري أيّ حديث عن انسحاب منهما. وينطبق الأمر نفسه على الوجود الأميركي (الذي تُسمّيه واشنطن استشارياً تدريبياً) في بعض القواعد في العراق. لكن هذا الوجود غرضه خدمة الأهداف الاستراتيجية الأميركية، وليس حماية منظومات سياسية معيّنة خدمت تلك الأهداف في مراحل سابقة. وآخر مظاهر السياسة الأميركية الجديدة تجاه السعودية، هو الرسالة التي وجّهها قبل أيام قليلة، نوّاب أميركيون إلى وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، يطالبونه فيها بـ«الإفراج عن السجناء السياسيين المحتجَزين بسبب تغريدات على تويتر». وعلى رغم أن الرسالة وُقّعت من قِبَل 21 نائباً ديموقراطياً، ونائب جمهوري واحد، إلّا أنها تعكس بوضوح أن المشكلة الأميركية مع السعودية هي ثنائية الحزبية. وبالمثل، لا يعني اعتماد استراتيجية تحوّط من قِبَل دول الخليج، الانتقال إلى الموقع المعادي للولايات المتحدة. فالترابط بين الأنظمة الخليجية وبين أميركا ما زال كبيراً جدّاً، على رغم التغيّر الذي شهدته العلاقات بين الجانبين بعد أن أصبحت الصين هي الشريك التجاري الأوّل لدول الخليج، سواءً من حيث استيرادها للنفط أو تصديرها للبضائع.
الأهمّ من ذلك كلّه، هو أن العلاقات الصينية - الأميركية نفسها، والتي يَجري التنافس في ظلّها، ليست صدامية، بعكس التنافس الأميركي - الروسي الذي يُمكن اعتباره في أساسه عسكرياً. لم يُظهر الأميركيون شعوراً بالاستفزاز نتيجة التحرّكات السعودية الأخيرة، وكان ردّ فعلهم على التقارب السعودي - السوري، أقوى من ذلك الذي سُجّل على الاتّفاق السعودي - الإيراني، أقلّه في العلن. بل في الحالة الثانية، جاء ردّ الفعل الأميركي العلني مرحّباً، انسجاماً مع السياسة الأميركية التي تقول - في العلن أيضاً - إن كلّ ما يساعد على الاستقرار في الشرق الأوسط هو موضع ترحيب. وعلى رغم ما تَقدّم، لا يمكن لواشنطن إلّا أن تشعر بالقلق في الوقت الذي ترى فيه رغبتها في التخفّف من الأحمال في الشرق الأوسط تُترجَم مكاسب لمنافسيها، وهذا بالضبط ما عكسه تناول الصحافة الأميركية للتحوّلات السعودية الأخيرة، وأيضاً آراء كبار خبراء السياسة من أمثال هنري كيسنجر. ولا يمكن استتباعاً، إلّا الحديث عن مخاطر قد تترتّب على الحكم السعودي الجديد، بسبب تلك الخيارات.
في النتيجة، هذا مسار تنافسي بدأت معالمه على الأرض تظهر للتوّ، ومن المبكر جداً الحديث عن مآلاته المستقبلية.