القاهرة | ثمة نقاش يشهده الرأي العام العربي عن تصنيف المقاومة الفلسطينية وأدائها خلال العدوان على غزة. إذ ذهب بعضهم إلى رؤية ما يجري بين إسرائيل و«حماس» تساندها بعض الفصائل، على أنه صراع إقليمي أوسع يشتعل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ما الذي تغير في عالمنا العربي حتى وصلنا إلى استنتاج قطاع كبير من كتاب الرأي والمحللين أن هناك محوراً تقوده إيران، يوجّه المقاومة وسلاحها، وأن المقاومة تعني «حماس» التي هي جزء من الإسلام السياسي ومنظومة «الإخوان المسلمون»، وفي النتيجة يكون الموقف هو دعم إسرائيل لمواجهة الخطر الإيراني والإخواني؟
ظلت القضية الفلسطينية لسنوات طويلة هماً عربياً واحداً، خاصة في ظل موجة التحرر الوطني التي بلغت أوجها قبل ستة عقود، وخلالها بقي الموقف العربي ثابتاً في الدفاع عن حق الفلسطينيين في استرداد الأرض المحتلة. جرى ذلك رغم ظهور بعض المتغيرات السياسية، وتحديداً منذ توقيع معاهدة السلام المصرية ــــ الإسرائيلية 1979، وما تلا ذلك من انقسام عربي بين معسكر رأى في التقوقع داخل حدود الوصول إلى صيغة تفاهم مع الإسرائيلي طوق نجاة، ومعسكر آخر ارتضى التعامل بالشعارات مع القضية على أساس مناكفة إسرائيل.
لقد تغيرت البيئة السياسية وتهافتت الدول العربية واحدة تلو الأخرى، منذ مؤتمر مدريد للسلام 1991، نحو إقامة علاقات واتصالات ثابتة مع إسرائيل، وقبول فكرة مفاوضات السلام لإقامة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية بديلا عن المقاومة المسلحة، ولم يتغير الموقف العربي اللاهث وراء التعاون والاعتراف وربما تملق الاحتلال، رغم ما أظهرته الانتفاضة الفلسطينية الثانية من تململ شعبي من مسار المفاوضات وإخفاق السلطة الفلسطينية. حتى السعودية قادت عبر مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت في 2002 الإقرار العملي بسقوط حق المقاومة وبدء خطوات التطبيع الاستباقي تمهيداً لإقرار السلام، واستمرت الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها السلطة، فتحولت إلى دمية بيد الاحتلال مقابل متنفس من الحرية والدعم المالي الدولي.
كذلك، أصبح لدى النخب الحاكمة في البلدان العربية قناعة بأن التواطؤ على حقوق الشعب الفلسطيني يعزز مكانة الأنظمة وثبات علاقاتها مع الولايات المتحدة، وللأسف تبنت دوائر في الرأي العام العربي وبعض الشرائح الشعبية هذه النظرة الضيقة، ما جعل حجم مظاهرات التضامن والمواقف العربية من حرب تموز 2006، مثلاً، أقل بكثير مما حدث أثناء الانتفاضة الفلسطينية، وربما للمرة الأولى حمّلت بعض الأنظمة العربية حركات المقاومة مسؤولية الدماء التي تسفكها إسرائيل. ولاقى ذلك تأييداً في الشارع العربي الذي تأثر بهذا الخطاب السياسي.
أظهرت الحرب الحالية على غزة متغيراً جديداً يتمثل في موجة التغيير العربية التي هددت بقاء الأنظمة، ما جعل دولاً مركزية مثل مصر والسعودية وسوريا تتمترس لرفض حدوث إصلاح سياسي، حتى أن الأنظمة ضاقت ذرعاً بجماعة الإخوان التي تحالفت معها طويلاً، وقدّمت لها الدعم للعب أدورا محددة وفقاً لمصالحها. وباتت الأنظمة الفاعلة خائفة من التمدد الدولي والاتصالات التي تملكها الجماعة، وإمكانية ازدياد النفوذ التركي والقطري في المنطقة، وعليه وُضعت «الإخوان» في خانة العداء. وبدت السياسة الخارجية لدول مثل السعودية متخبطة للغاية، فهي تارة تدعم الجهاديين لمحاربة أنظمة حليفة لإيران، وتارة أخرى تواجههم بدعوى مكافحة الإرهاب.
هكذا ذهب كثيرون إلى رؤية الحرب على غزة مجرد صراع بين محور تقف فيه إيران وحلفاؤها العرب على جانب، والآخر تقف فيه إسرائيل وحلفاؤها العرب المعتدلون، بل صار المشهد كأن مستوى الصراع في مصر بين الإخوان والجيش هو الصراع نفسه الذي يدور بين حركة التحرر الفلسطينية بمختلف فصائلها والعدو المحتل للأرض!
يجب ألا ننسى أن «حماس» بالأساس جزء من الحركة الوطنية رغم صلتها الفكرية بجماعة «الإخوان»، ولا يمكن رؤية الدعم الذي تحظى به المقاومة من إيران وحلفاؤها أو المحور القطري ـــ التركي، إلا كورقة تستخدمها حركات المقاومة للاستفادة العسكرية والسياسية من الأطراف كافة الداعمة لقضية التحرر.
المقاومة الفلسطينية لم ترسل جنودها، رسمياً، للدفاع عن النظام السوري، ولا هي كما يقال تدخلت في الشأن المصري لحساب الإخوان. ولو كانت مصر أو السعودية تتبنى إستراتيجياً خيار دعم المقاومة المسلحة ما احتاجت حركات المقاومة دعماً عسكرياً إيرانياً أو مساندة سياسية تركية.
في المقابل، لا تحتاج إسرائيل إلى من يناوئها في المنطقة حتى تمارس ما اعتادت بقتل المدنيين وتدمير البنية التحتية وتوسيع الاستيطان وتهويد القدس، فهي ماضية في كل ذلك سواء أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية الصواريخ أم لا، وهي ماضية في إذلال السلطة وتخريب المفاوضات، سواء قبلت «حماس» بتهدئة أم لا.
لو كان ما يردده هؤلاء بشأن الصراعات الإقليمية على أنها سبب لما يحدث في غزة صحيحاً، فما الذي عطّل تحقيق اتفاق للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل منذ توقيع اتفاقية أوسلو في 1993 حتى الحرب الأولى على غزة في 2008؟
الحرب الإسرائيلية على غزة ليست نتاجاً لصراع إقليمي في المنطقة على النفوذ والمصالح. صحيح أن ثمة تجاذبات هنا وهناك بين دول فعالة في الإقليم بشأن التعاطي مع هذه الحرب واختيار من يساند من، لكن القرار الاسرائيلي بالعدوان على غزة ومحاولة التخلص من حركات المقاومة ليس إلا حلقة في إستراتيجية طويلة تبنتها الدولة العنصرية منذ نشأتها.
باختصار: الصراع هنا بين إرادة شعب يقع تحت الاحتلال ومحتل غاصب. وكل هذا الحديث المكرر عن الصراع الإقليمي والدور الإيراني يهدف إلى التشويش على فكرة المقاومة وإثارة الشك لدى قطاعات كبيرة من الشارع العربي، وأيضاً إضعاف المقاومة وتجريدها من ظهير شعبي دعمها وساندها في مواجهة العدوان الإسرائيلي، مع أنه، مجدداً، لا يمكن إنكار وجود ارتباطات سياسية لها بعض التأثير في الهوامش.