تونس | بعدما دأب الأوروبيون، طيلة السنتَين الأخيرتَين، على إعلان رفْضهم «الانحراف عن المسار الديموقراطي» من قِبَل الرئيس التونسي، قيس سعيد، وتأكيدهم في الوقت نفسه مُواصلة دعم هذا البلد، يخطو هؤلاء اليوم خطوات كبيرة إزاء تونس، تنبئ بأن القرار في نهاية المطاف في شأن المستقبل السياسي والاقتصادي لن يكون مُلك سعيد وحكومته فقط، إذ على رغم كثرة البيانات التي أصدرتْها وزارة الخارجية التونسية تنديداً ببعض التصريحات الصادرة أخيراً عن مسؤولي القارّة العجوز، استمرّت المقرّات الحكومية في استقبال الوفود الأوروبية التي تباحثت مع وزراء حكومة نجلاء بودن في كلّ ما يرتبط بالشأن الداخلي، تحت شعار إنقاذ تونس من «الانهيار» الاقتصادي. وارتبطت «التوصيات» التي حملها المسؤولون الأوروبيون إلى نظرائهم التونسيين بثلاثة محاور رئيسيّة: أوّلها، وجوب البتّ في قرض «صندوق النقد الدولي»، والذي تعطّل التفاوض بشأنه أشهراً لعدم وجود ضمانات، وثانيها، ضرورة إجراء إصلاحات سياسية وتحسين واقع الحقوق والحريات، وثالثها، مسألة الهجرة غير النظامية والتي استأثرت إيطاليا بالحصّة الكبرى من الحديث عنها كونها المتضرّرة الكبرى منها، علماً أن نصف المهاجرين غير النظاميين الذين عبروا البحر منذ بداية العام كانوا قد غادروا الشواطئ التونسية، ما يعني تضاعُف نسبتهم بأكثر من مائتين في المئة مقارنة بالأشهر الثلاثة الأولى من العام الماضي.
وجاءت هذه اللقاءات في أعقاب صدور تصريحات أوروبية تُحذّر من «الانهيار» في تونس، وانعكاسه على أمن أوروبا، أبرزها تعبير جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، عن مخاوفه من «انهيار الوضع السياسي والاقتصادي في تونس». ومع أن السلطات التونسية انتقدت هذا التصريح، معتبرة أنه «غير متناسب مع حقيقة الوضع»، إلّا أن مصادر إعلامية ودبلوماسية أفادت بأن الحكومة ستستقبل عدداً آخر من المسؤولين الأوروبيين خلال الأيام القليلة المقبلة، ما يعني أنها ستتعرّض لضغوط إضافية بهدف الإسراع في وضْع الاتّفاقات المطلوبة على سكّة التنفيذ. وكانت هذه الضغوطات بدأت بإصدار البرلمان الأوروبي قراراً دان فيه الانتهاكات في مجال عمل الجمعيات والنقابات والصحافة، موصياً باتّخاذ إجراءات ضدّ السلطات التونسية، من أهمّها وقْف المساعدات الموجَّهة إلى وزارتَي العدل والداخلية. وإذا كانت قرارات البرلمان غير ملزِمة للحكومات، فقد أعقبته تصريحات تبنّت مضمونه، على رأسها لبوريل، الذي قال، في يوم عيد الاستقلال التونسي، إنه «لا يمكن أن نغمض أعيننا حيال ما يقع في تونس».
من شأن التناغم الأوروبي - الأميركي أن يضعّف قدرة النظام التونسي على فرض شروطه في المفاوضات


إزاء ذلك، يمكن تقدير وجود احتمالَين: إمّا أن الأوروبيين توافرت لديهم معطيات دقيقة بأن الوضع سائر إلى «انهيار» قريب بالفعل، وهو ما أثار مخاوفهم من انعكاسات عليهم وحمَلهم على التدخّل؛ وإمّا أنهم وجدوا الفرصة المناسبة لفرض جملة من الإملاءات على المستويَين السياسي والاقتصادي في تونس. وأيّاً يكن، فإنه في ظلّ التراجع الشديد في المؤشّرات الاقتصادية، وتدهور وضع الحريات، يمكن القول إن الرئيس سعيد فتح بنفسه بوّابةً لولوج الخارج، بعد أن تجاهل كلّ دعوات الحوار الداخلي. تدخّلٌ لن يتقدّم غيرُ الأوروبيين صفوفه، بالنظر إلى أن تونس تشكّل جزءاً من خارطة مصالحهم السياسية والأمنية والاقتصادية، وأن استقرارها و«تعاونها» مع أوروبا وضمانها مصالحها شمال المتوسّط، أمر بالغ الأهمّية للقارّة العجوز.
من جهتها، أبدت الولايات المتحدة تفهّمها للمخاوف الأوروبية، داعيةً، على لسان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، تونس، إلى الإسراع في إبرام الاتفاق مع «صندوق النقد الدولي»، ومحذّرةً من أنه من دون هذا الاتفاق فإن «تونس تتّجه إلى المجهول». ومن شأن ذلك التناغم الأوروبي - الأميركي أن يضعّف قدرة النظام التونسي على فرض شروطه في المفاوضات مع الصندوق، بل إن أوروبا قد تستغلّ الظرف للمسارعة في فرْض اتّفاقها لـ«التبادل الحرّ والمعمّق»، والذي تَعطّل التفاوض بشأنه منذ مدّة، ويراه خبراء ومنظّمات حقوقية ونقابية بمثابة استعمار جديد لتونس. ويعزّز التقديرَ المتقدّم، التلازمُ بين السياسة والاقتصاد في جملة التصريحات الصادرة عن جهات أوروبية خلال الأسبوع الجاري، والمنحى الذي اتّخذته الصحافة الأوروبية، وخاصة الإيطالية، في تحليلها وضع الاقتصاد التونسي، والذي طغى عليه الحديث عن وصول تونس إلى «شفا الانهيار الاقتصادي الكامل»، والتحذير من انعكاسات هذا الوضع على مسألة الهجرة غير النظامية.