أشار المجتمع الدولي أخيراً، وبكثرة، إلى العنف في الضفة الغربية، من دون الاكتراث إلى المقاومة اللاعنفية التي يقودها الشعب الفلسطيني، وتحديداً الأسرى القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، الذين يقاومون، باللحم الحي وبالأمعاء الخاوية، ظلمَ السجان والقوانين العنصرية والمحاكم الصورية التي لا تصب إلا لمصلحة الاحتلال. كنا نأمل من المجتمع الدولي الداعي إلى اللاعنف، في تسليط الضوء بشكل فعلي على المقاومة اللاعنفية للحركة الوطنية الأسيرة، التي فعلت لجنة الطوارئ الوطنية العليا في 16 آب 2022، لتضم القوى والفصائل الفلسطينية كافة، بعد انتزاع الأسرى الستة حريتهم من سجن جلبوع في 6 أيلول 2021، من خلال حفر نفق بملعقة. وقد بدأت «اللجنة»، بصياغة بيانات تحثّ المجتمع الدولي على دعم قضيتهم، وإصدار تعاميم يومية تتناول أوضاعهم المأساوية ومعاناتهم.
وبعد الردود السلبية على مطالب الحركة الوطنية الأسيرة، اتخذ الأسرى قرار حل الهيئات التنظيمية، التي تحاور إدارة السجون الإسرائيلية في 28 آب 2022، وبيّن في حينها «نادي الأسير الفلسطيني» في بيان أن «إدارة سجون الاحتلال ستكون مجبرة منذ اليوم على مواجهة الأسرى كأفراد وليس كتنظيمات، بعد حل الهيئات التنظيمية للأسرى». وأتت تلك الخطوة كجزء من الخطوات الاحتجاجية التي استأنفها الأسرى، بعد أن حاولت إدارة سجون الاحتلال التنصّلَ من «التفاهمات» التي تمّت في شهر آذار 2022، وتم التقدير حينها أن تلك الخطوات التصعيدية ستنتهي بإضراب عن الطعام في الأول من أيلول 2022. لم يتم هذا الإضراب، فبعد ظهيرة اليوم المقرر له، أوقف الأسرى كلّ خطواتهم التصعيدية، بما فيها الإضراب عن الطعام الذي كانوا قد بدأوه صباح ذلك اليوم، بعد تلبية مطالبهم كافة، ووقف أي إجراءات جديدة بحقهم، وذلك بعد جلسة حوار للأسرى مع إدارة سجون الاحتلال، أخضعوها لمطالبهم.
وقبل «تفاهمات» آذار 2022 (التي تنصلت منها مصلحة السجون، ولذلك كان الأسرى سيشرعون بإضراب أيلول 2022) حاولت إدارة السجون الإسرائيلية أن تشترط على الأسرى التفتيش من أجل إقامة صلاة الجمعة، وذلك في 11 شباط 2022، وكانت إدارة سجن «نفحة» قد أبلغت الأسرى في الأقسام كافة أنهم سيخضعون للتفتيش عند الخروج لصلاة الجمعة في ساحة «الفورة»، إلا أن الأسرى، بحسب بيان نشرته هيئة شؤون الأسرى والمحررين حينها، «رفضوا القرار، وسيقيمون صلاة الجمعة داخل الغرف، ولن يخضعوا لضغوطات إدارة السجون التي تحاول زعزعة خطواتهم النضالية».
لم يقدّم مجلس حقوق الإنسان تقريراً واحداً يبرز فيها المقاومة اللاعنفية للحركة الوطنية الأسيرة، ولا حتى الإشارة إلى سوء المعاملة، والتعذيب، واحتجاز الجثامين


وفي السياق ذاته، قاطعت الحركة الأسيرة إدارة السجون في 28 شباط 2023، ووضعت برنامجاً للمواجهة، يتضمّن إرباكاً ليلياً في مختلف السجون والأقسام، وإرجاع الأسرى لوجبات الطعام، وارتداء «الشاباص» الأمر الذي يعني في السجون أن كل أسير على استعداد للمواجهة الجماعية والمباشرة مع السجان. وعلى صعيد الاعتقال الإداري أيضاً، يقاطع الأسرى الإداريون محاكم الاحتلال، كخطوة احتجاجية، لإنهاء اعتقالهم، ووقف السياسة التعسفية بحقهم.
ولجأت الحركة الأسيرة، غير مرة، إلى الإضراب المفتوح عن الطعام، الذي أثبت فعاليته في مواجهة الاحتلال، وكان آخره قبل يومين، إذ كان الأسرى قد قرروا الإضراب المفتوح عن الطعام، منذ اليوم الأول لشهر رمضان الجاري، وسمّوه «بركان الحرية أو الشهادة»، لكن مساء 22 آذار الجاري، أعلنت لجنة الطوارئ الوطنية العليا للحركة الأسيرة انتصارها على السجان، بتأكيدها أنها أجبرت الاحتلال على التراجع عن إجراءاته ضد الأسرى، و«وقف الإجراءات العقابية والتعسفية» بحقهم، بحسب بيان مشترك أصدرته هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني. وذلك بعد أن خاض ممثلو الأسرى جولة مفاوضات صعبة وشاقة مع إدارة سجون الاحتلال، انتهت بوقف الإجراءات العقابية والتعسفية التي قررها وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، مما جعل الأسرى يوقفون خطوة الإضراب.
جميع هذه الإجراءات التي قامت بها الحركة الأسيرة منذ عام 1967، استخدمها رواد اللاعنف مثل غاندي، وجاك دو بولارديير، ومارتن لوثر كينغ، وغيرهم من المناضلين اللاعنفيين، الذين تمردوا على القوانين الجائرة بهذه الطريقة. وهذا مثلاً ما يطالب به المجتمع الدولي، لكنه يلتزم الصمت تماماً، طالما أن الأمر يخص القضية والشعب الفلسطيني.
فلم يقدم مجلس حقوق الإنسان تقريراً واحداً يبرز فيها المقاومة اللاعنفية للحركة الوطنية الأسيرة، ولا حتى الإشارة إلى سوء المعاملة، والتعذيب، واحتجاز الجثامين، ومنع زيارة الأهالي، والإهمال الطبي الذي يتعرض له الأسرى. وينطبق هذا الأمر على بقية المؤسسات الأممية، كمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
وعلى المنوال ذاته، يتغافل الإعلام الدولي عن النضال اللاعنفي الذي يقوم به الأسرى، بينما تتوجه الأضواء إلى طفل فلسطيني يواجه دبابة، ويعتبر بنظر بعض تلك الوسائل إرهابياً، أو حتى عندما تمارس المقاومة في المناطق المصنفة دولياً محتلة، وذلك بهدف شيطنة الشعب الفلسطيني، ووضعه بحالة المعتدي على المستوطنين. في المقابل، لا تعرض وسائل الإعلام العالمية (إلا نادراً) عمليات الطعن والتسليح والقتل وإحراق البيوت التي تنظم من قبل المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.
إنّ الاستراتيجية النضالية التي تقوم بها الحركة الوطنية الأسيرة، تشكّل نقطة مفصلية في تطوّر العملية النضالية، المربكة للاحتلال فعلاً. لكن مع حكومة الاحتلال الحالية، الأشد عنصرية وتطرفاً منذ عام 1948، لا يمكن إطلاق سراح الأسرى، إلا من خلال عملية تبادل للأسرى، تنتزع حريتهم انتزاعاً.

* مستشار قانوني في المحكمة الجنائية الدولية