كان هناك دكان تمرٍ في المخيم، قام الشبان بكسر القفل وتوزيع أكياس التمر على الناس. في الأيام الأولى للحرب، استعمل الأهالي التمر كمكوّن أساسي لكل شيء. من كان لديه القليل من الزيت، أخذ يضع حبات التمر في الزيت الحامي ليصبح طعمه كالبقلاوة. و من كان يستحلي شرب الشاي، يوم لم يعد هناك شاي، كان يغلي التمر بالماء ويشربه. و لكن سرعان ما نفدت الكميات المحدودة و لم يعد هناك سوى القليل من الطحين لدى فرنٍ تابع للأشبال. بعض الناس كانوا يحظون برغيف واحد لعائلتهم، و بعضهم لم يحظَ بشيء.
انخرط جميع السكان بمساعدة الفدائيين الذين أقاموا محاور للدفاع عن المخيم، منهم من ساعد في جلب الماء من البئر الى المسلحين، و منهم من كان يحضر قطع القماش التي احتاجها الممرضون لربط اصابات المقاومين. حتى أن الأولاد جاؤوا للمساعدة، فأخذوا يقومون بقص الشمع المتبقي الى قطعٍ صغيرة حتى لا يتم استهلاك الكمية المحدودة دفعةً واحدة. كما قام أحد الفتية الأذكياء بجمع «قناني» الزجاج من المنازل، التي لم تُقصف بعد، واحضارها الى المستوصف ليتم استعمالها من قبل الطبيب كمصل للجرحى.
جمع «قناني» الزجاج ليستخدمها الاطباء كعبوات للأمصال
سقطت تلة المير (التلة التي تطل على المخيم، فمن نجح باحتلالها، أصبح المخيم مكشوفاً أمامه) مرات عدة بيد المرتزقة وجرت استعادتها من قبل المقاومين في كل مرة. لكن في اليوم الثاني والخمسين للحرب، سقطت التلة للأبد واستشهد من كان يحرسها، كما استشهد كثير من الفدائيين الذين حموا المخيم بسلاحهم وعيونهم وأرواحهم، كالبطل «صاعق» و»الوحش» و»صقر الزعتر».
كان ذلك، آخر يومٍ في تل الزعتر. يومها دخل الهمجيون الى المخيم بسلاحهم، قتلوا الرجال و الأولاد من دون تمييز، و أخذوا ينادون أسماءً عديدة منها: فاديا س. فاديا التي كانت ممرضة تعمل في مستوصف الهلال الأحمر، و كانت ابنة مقاتلٍ شرس يعرف باسم «أبو علي س.»، و أخت لثلاثة أو أربعة شبان كانوا يقاتلون على محورٍ سُمي باسمهم لشجاعتهم.
جميع من تجمع في ساحة النافعة يومها، سمعوهم ينادون اسم فاديا، و حين لم تظهر و لم يستطيعوا الامساك باخوتها، عثروا على أبيها «ابو علي». هكذا، قاموا بربطه بين سيارتين، ثم تحركت كل سيارةٍ باتجاهٍ معاكس، وحدث ما شهده أهالي المخيم!
فاديا كانت هناك في الساحة، لم يتعرفوا عليها، لكن سكان المخيم استطاعوا ان يميزوها، الا أن احداً لم يقل شيئاً.
كانت لمّاحة جداً، مسحت طين الأرض على وجهها حتى أصبح أسوداً، ووضعت قطعة قماشٍ فوق رأسها ولفتها ككبار السن، ثم أحنت ظهرها لتوحي بأنها عجوز، وأمسكت طفلاً بين يديها وعبرت بين النساء الى المكان الذي سمحوا فيه للناس بركوب الشاحنات لإخلاء المخيم.
حتى الذين كان لهم عمر بعد ليخرجوا على قيد الحياة، لم يغادروا بطريقة طبيعية، بل عانوا لحظاتٍ لم يدركوا من خلالها ان كانت الأخيرة قبل الرحيل او انها ستكتب لهم حياةً جديدة في مخيماتٍ أخرى. فاحدى الفتيات كانت تبلغ من العمر إحدى عشرة سنة، كانت تضع أقراطاً ذهبية حين اقترب أحد المسلحين و أمرها أن تنزعها وتعطيه اياها، فأجابته خائفة بانها لا تستطيع، فرد قائلاً: «شو رأيك بقصلك دينيكي وباخدهم؟» و منهم من ظنّ انه قد نجا، وهمّ بعبور الشارع حتى اصابته رصاصة قناصٍ أحب أن يتسلى بأرواح الناس قبل انتهاء آخر يوم في الحرب.
لا ينسى أهل تل الزعتر الموجودون حالياً في مخيم برج البراجنة وشاتيلا ومخيمات البقاع والشمال وغيرها من المناطق اللبنانية، حياتهم داخل ما يواظبون على تسميته «مخيم الصمود». كما انهم يواصلون نقل الذاكرة الشفهية الى اولادهم واحفادهم. وقاموا بتأسيس «رابطة أهالي تل الزعتر» التي تجمعهم ببعضهم بعضاً في جميع انحاء البلاد التي لهم وجود فيها العربية منها والأجنبية.
هكذا، يواصلون اللقاء ويتشاركون الصور المتبقية من ذكرياتهم هناك، بحلوها ومرّها، فهي كل ما تبقى لهم ليثبتوا ان تلك الأرض ولو لم تكن لهم الا انها لا شك كانت يوماً بيتهم.
تأسس مخيم تل الزعتر عام 1949 شرق مدينة بيروت و سكنه حوالى خمسون ألف فلسطيني بعد ان خرجوا ابان النكبة الفلسطينية عام 1948. عاشوا فيه بين اخوانهم اللبنانيين في منطقة الدكوانة و كان سكانه يعملون في معامل المنطقة. شهد المخيم حصاراً خانقاً بداية عام 1976 ثم تحول الى ساحة معارك في منتصف العام، راح ضحيته ما يزيد عن الألفين شهيد منهم المئات من النساء و الأطفال. هدمت الجرافات المخيم بالكامل و محي أثره عن المدينة منذ تلك الحرب.