مارتين لوجيان * وصلت إلى غزة في الثاني والعشرين من تموز الماضي، وحتى اللحظة أعجزُ عن استيعاب هذه الكارثة الإنسانية. أعاني هنا، شأني كشأن أي فلسطيني، من وضع هو أسوأ ما شاهدت في حياتي. الهجمات الإسرائيلية العدوانية التي لم يسبق لها مثيل خلّفت وراءها الكثير من المآسي والمعاناة الإنسانية.

عدوان أيقظ حتى مشاعر الحمير

الحرب على غزة هي حرب ضد المدنيين العزل. لست وحدي من أقول هذا، بل كل الصحافيين الذين قابلتهم وغطّوا حروباً على مدار عشر سنوات في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا وغيرها. جميعهم يؤكدون أن ما يحدث في غزة حرب جديدة من نوعها، تسقط القذائف مساءً وصباحاً. لا وقت لها ولا دين، ولا مكان محرم عليها. القذائف تقصف كل ما في طريقها ويعترض مسيرتها، من منازل ومساجد أو حتى مستشفيات. ليلة الثلاثين من تموز، وبينما كنا نجلس وأصدقائي على الشرفة، قصفت طائرات إف 16 مبنى سكنياً يبعد حوالى خمسين متراً عن محل إقامتنا، ثم سمعت نهيقاً هستيرياً من حمار شعر حتى هو بهول ما يحدث، بينما يفتقد كثيرون في العالم من حولنا أيّ إحساس. قفزت لأرى ما يحدث: تناثرت الشظايا بقوة على جدران منزلنا على بعد سنتيمترات منا وكادت تصيبنا في مقتل. سحابة من الغبار غطت المكان واستولت برمادها على نظارتي الطبية وحاسوبي المحمول، وجرش الغبار بين أسناني. استغرق انقشاع الغبار نصف دقيقة. رأيت بعدها ذلك الأب الذي يحاول حماية أطفاله وراء مقطورة حديدية لتفادي الضربة الصاروخية الثانية.

إنهم يجلسون في
طائراتهم المقاتلة المتطورة مستعدين للقتل والتدمير

هذه المقطورة تابعة لشركة مقاولات وتقف دائماً في المكان المقابل لبيتنا بعد الانتهاء من عملها. ركضت من الفور إلى أنقاض المنزل المقصوف لمساعدة الجرحى من عائلة كانت تمشي في الشارع مراراً، وكنت أتحدث معها كثيراً قبل القصف. وثّقت هذا الحدث بهاتفي المحمول بجانب بقايا أعمدة الكهرباء الساقطة والحجارة المتناثرة وسيارات الإسعاف التي تنقل الجرحى والقتلى والأشلاء إلى المستشفى.
منذ وصولي وأنا أرى الأهداف المدنية تقصف بعشوائية وبالصواريخ والقنابل التي لا تعد ولا تحصى، ليلاً ونهاراً. من بين هذه الأهداف مدرسة ابتدائية للبنات تابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) في بيت حانون. ورغم أن وكالة الغوث قد زوّدت الجيش الإسرائيلي بإحداثيات مكان هذه المدرسة تفادياً للقصف العشوائي، لم يمنع ذلك إسرائيل من قصف هذه المدرسة والمئات من النازحين واللاجئين الذين اتخذوها كمركز إيواء لهم. لم تكتف إسرائيل بهذا، بل قصفت مخيمات اللاجئين، والأطفال الذين يلعبون في الساحات قتلوا بلا سبب واضح. حتى السوق قصفت وخلّفت وراءها 17 قتيلاً و160 جريحاً كانوا منهمكين في توفير احتياجاتهم الرئيسية من الطعام والشراب. هي مجازر لا تُحصى وتُرتكب بحق المدنيين العزل.

هاتف نقّال يتواصل مع عالم ساكن

بصراحة، لا أستطيع أن أفهم دوافع القوات الاسرائيلية لاستهداف المدنيين عمداً وقصف أماكن التجمعات السكنية المكتظة، لكن من المؤكد أن لديهم المعلومات الدقيقة والكافية عن الأهداف العسكرية بالاستفادة من طائرات الاستطلاع من دون طيار التي تزودهم بصور عالية الدقة عن طبيعة المكان والسكان. رغم كل هذا، تستهدف الطائرات الحربية النساء والأطفال عمداً. فما هي المعايير الأخلاقية التي يخضع لها أسياد السماء لتقرير حياة وموت هؤلاء الأبرياء؟!
إنهم يجلسون في طائراتهم المقاتلة المتطورة مستعدين للقتل والتدمير. عادة في المعارك المتعارف عليها، الجنود يقتلون الجنود. على الأقل وفق التشريعات والقوانين الدولية. لكن لماذا يُقتل المدنيون عمداً مع سبق الإصرار والترصد مثلما حدث مع العائلة الساكنة في البناء المجاورة لبيتي وللاجئي المدارس والأطفال في الحديقة والناس في السوق؟
كل هذا يناقض القوانين والمعاهدات السارية أثناء الحروب. يتساءل سكان غزة: لماذا لا يدين الرئيس الألماني ورؤساء الدول الأوروبية هذه الانتهاكات للاتفاقات الدولية؟ إنها جرائم حرب ترتكب كل يوم في حق المدنيين العزل. لقد ضُربت الأهداف المدنية كالمستشفيات ومحطات المياه، وتوليد الكهرباء الوحيدة في غزة، وأيضاً وسط غزة الراقي الذي يطلق عليه «بيفرلي هيلز غزة»، وهو قبل ثلاثة أسابيع كان يتمتع ببنية تحتية فعالة، لكن الأوضاع تحولت الآن في غزة إلى ما يشبه فترة العصور الحجرية. منذ ليلة التاسع والعشرين من تموز لا أحد يستطيع الحصول على المياه. نغتسل بعدة زجاجات من المياه المعدنية التي نشتريها من دكان صغير قريب عند زاوية الشارع. بسبب قصف محطات الطاقة انقطعت الكهرباء والإنترنت والهواتف الأرضية. وحدها الهواتف النقالة تربطنا بالعالمين الداخلي المشتعل، والخارجي الساكن حتى الموت. ماذا لو انقطعت هي أيضاً؟ أكتب هذا النص في فندق الديرة الذي يملك مولداً خاصاً وتتمركز فيه وكالة الأنباء الفرنسية AFB التي لحسن الحظ لديها شبكة اتصال إنترنت خاصة بها.

نتقاسم الزيت والزعتر والسجائر والصابون

لا يوجد خبز في غزة. الخبز الذي نتناوله تصنعه زوجة مضيفي ماهر في الفناء الداخلي من المنزل داخل فرن قديم يعمل بالفحم، نغمس الخبز في زيت الزيتون والزعتر كل يوم، ولا نستطيع شراء طعام آخر، لأنه ببساطة لا توجد سيولة نقدية في الصرافات الآلية للبنوك. البنوك مغلقة ووزارة المالية دُمرت تماماً. بطاقات الائتمان لا تعمل. نشتري الزيت والزعتر من البقالة ونقيّد المبلغ ديناً لدفعه في وقت لاحق، تماماً كباقي الناس الذين يعيشون في غزة في هذا الوقت الحرج.
انعدمت الحياة وشلت الحركة في غزة، أُغلقت كل المرافق العامة والمكاتب والمحال التجارية والمطاعم. الخروج فقط لأمر طارئ وضروري. الشواطئ والحدائق مهجورة بعد قتل الصبية الأربعة الذين كانوا يلعبون كرة القدم على شاطئ البحر بصاروخ إسرائيلي، وهو شاطئ يخلو من أي مقاومين أو منصات لإطلاق الصواريخ الحمساوية.
أُقيم الآن في عمارة سكنية مكوّنة من طابقين اثنين، وتحتوى على أربع شقق سكنية، بجوار مسجد الأمين الذي قُصف في التاسع والعشرين من تموز. عدد القاطنين في هذه العمارة قبل الحرب كان عشرة أشخاص. أما الآن فإن مضيفي ماهر سمح لستين شخصاً من نازحي شمال القطاع بالعيش في هذه العمارة، إذ ينام الرجال في الممرات وتتخذ النساء والأطفال الشقق ملاذاً آمناً ــ حتى الآن ــ.
ليس من السهل أن تنام في مساحات ضيقة مع غرباء، تشعر كأن حريتك الخاصة منقوصة. الأعصاب دوماً مشدودة وعلى حافة الانهيار بسبب القصف المتواصل. لم أنضم إليهم أنا إلا أخيراً، قبل عشرة أيام تقريباً، ومع هذا كل السكان يحاولون الحفاظ على الهدوء والاستمرار في الحياة. يشتركون بكل ما لديهم من خبز وسجائر وطعام وصابون وحتى بطاريات الهاتف المحمول. الفلسطينيون أذكياء كاللبنانيين، ومبدعون كالعراقيين، ومقاتلون أشدّاء كالجزائريين، وكرماء كالسوريين، كل هذه الصفات الايجابية التي يمتاز بها سكان غزة تجعلهم قادرين على المضي في هذه الحياة الصعبة والحصار الجائر والقصف المتواصل جواً وبحراً وبراً.
لا يزال الأطفال يلعبون في الساحات والشوارع، ولا تزال النساء يدندنّ الموشحات الفلسطينية القديمة وهن يخبزن الخبز اللذيذ. والرجال يضربون الأرض سعياًَ إلى الرزق ويقاومون المغتصب. يقول مضيفي ماهر: «لدينا رغبة في الحياة، وإرادة من حديد لا يكسرها حصار ولا تدمرها القذائف والصواريخ».
* صحافي ألماني وثّق مشاهداته
من قلب الميدان في غزة