الخرطوم | لا يكاد المشهد السوداني يستقرّ على صورة ما، بعيدةً في كلّ الأحوال عن طريق الحلّ النهائي، حتى يُعاوده التشوّش، خالِطاً الأوراق من جديد، وفاتحاً الأبواب على سيناريوات إضافية ربّما لم تكن في الحسبان. هذا ما ظهر تماماً في إعلان «المجلس السيادي» أخيراً توافُق الأطراف الموقِّعة على «الاتفاق الإطاري» وتلك المعارضة له، على إعلان سياسي لم تتّضح معالمه وخلفيّاته إلى الآن. وإذ لا تزال الكثير من الأسئلة والإشكاليات مطروحةً في ذلك الشأن، فإن السياق الذي رافق الإعلان الأخير قد ينبئ باستجابة الأطراف كافة لضغوط الرُعاة الدوليين، الذين يمكن الافتراض أيضاً أنهم عدّلوا من مقارباتهم، مُرتئِين توسيع دائرة المشاركين في العملية السياسية، ولو صبّ ما تَقدّم في مصلحة العسكر أوّلاً
لم يكد قادة الجيش السوداني يعلنون أن «الاتفاق الإطاري» غير كافٍ بذاته لاستقامة الأمور في البلاد، حتى خرج رئيس «مجلس السيادة» الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، بشكل مفاجئ يوم السبت الماضي، ليعلن أنه جرى الاتفاق بين المكوّنَين العسكري والمدني على إعلان سياسي جديد مبهَم التفاصيل والبنود حتى اللحظة. وذكر بيان للمجلس أن البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أجريا مع الأطراف المدنية المُوقِّعة على «الإطاري»، وتلك المدنية والعسكرية غير المُوقِّعة عليه، على مدى 3 أيام، محادثات توصّلوا خلالها إلى الصيغة النهائية للإعلان المُشار إليه تمهيداً للتوقيع عليه بـ«السرعة المطلوبة»، من دون تحديد موعد لذلك، تماماً مثلما لم يتمّ تحديد ما إذا كان المشروع الجديد بديلاً للاتفاق القديم أم أنه مكمِّل له.
ويعتقد محلّلون أن صياغة إعلان سياسي بهذه السرعة، قد ينبئ بامتثال المكوّنَين على السواء للضغوط التي سلّطها المبعوثون الدوليون في خلال زياراتهم الأخيرة إلى البلاد، ملوّحين بعقوبات ضدّ «كلّ مَن يعرقل العملية السياسية سواءً من المدنيين أو العسكر أو الحركات المسلّحة». وكان البيان الختامي الصادر عن هؤلاء، قبل أيام، شدّد على ضرورة إجراء حوار شامل على أساس الاتفاق السياسي المبرَم، والذي «يظلّ أفضل أساس لتشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية ووضْع ترتيبات دستورية لفترة انتقالية تتوَّج بالانتخابات» كما قالوا. وأشار البيان إلى أن «الباب ما زال مفتوحاً أمام مجموعات إضافية للانضمام إلى «الإطاري»»، مؤكداً أن «المبعوثين يقفون متّحِدين من أجل تعزيز مبدأ المساءلة للحركات المسلّحة أو العناصر العسكرية أو الجهات المدنية الفاعلة التي تحاول تقويض أو تأخير انتقال السودان إلى الديموقراطية».
الصيغة النهائية للإعلان السياسي الجديد مبهمة التفاصيل والبنود حتى اللحظة


وكانت حركتا «العدل والمساواة» و«جيش تحرير السودان» و«الحزب الاتحادي الأصل» أعلنت رفْضها «الاتفاق الإطاري»، محاوِلةً من خلال ورشة عمل عقدتها في مصر تقديم بديل منه، وهو ما حظي على ما يبدو برعاية من العسكر السوداني. لكن يَظهر، اليوم، على ضوء الإعلان الأخير، أن الرافضين سيندمجون مع المؤيّدين في قالب واحد، من دون أن تتّضح إلى الآن طبيعة هذا القالب. وفي انتظار جلاء الصورة، تحاول «قوى الحرية والتغيير» تصوير ما جرى على أنه توسيعٌ لدائرة «الإطاري»؛ إذ قال القيادي في الائتلاف، خالد عمر، في تصريحات صحافية، إن «الإعلان السياسي المقترَح هو صيغة سيتمّ بموجبها ضمّ الأطراف غير الموقِّعة على الاتّفاق الذي يَحكم مجمل العملية السياسية الجارية الآن». وطمْأن عمر إلى أن «العملية السياسية تمضي بصورة جيّدة»، لافتاً إلى أن «مؤتمر خريطة الطريق للاستقرار السياسي والأمني والتنمية المستدامة في شرق السودان، كأحد الملفّات الخمس التي تمّ إرجاؤها لدى إعلان «الإطاري»، ينتهي غداً الأربعاء».
وإلى جانب الإشكالات المرتبطة بفحوى الاتفاق الجديد، تَبرز تعقيدات أخرى مرتبطة بإصرار «قوى الحرية والتغيير» على انضمام أحزاب أو حركات مسلّحة كانت جزءاً من «اتفاق السلام» أو منظّمات بعينها إلى العملية السياسية، وليس «الكتلة الديموقراطية» مجتمعةً. كما ثمّة إشكالية متّصلة بالصيغة التي سينضمّ من خلالها «الحزب الاتحادي الأصل»، برئاسة جعفر الميرغني، إلى هذه العملية؛ إذ سبق له وأن وقّع على «الإطاري»، ولكن ممثَّلاً بشقيقه جعفر، الحسن الميرغني. وإذ تدلّ تلك التعقيدات على أن ما جرى التوافق عليه، إنّما دُبّر على عجل تحت تأثير ضغوط دولية على جميع الأطراف المعنيّة، فإن «الحرية والتغيير» تتمسّك بما تَراه حقّها في تحديد الأطراف التي يُفترض بها أن تكون جزءاً من المشهد السياسي. وفي هذا المجال، يؤكد القيادي في الائتلاف، رئيس «القطاع الإعلامي للتجمّع الاتحادي»، محمد عبد الحكم، «التزام «الحرية والتغيير» بالاتّفاق الإطاري وأطرافه، والسعي لإلحاق جميع الأطراف المحدَّدة مسبقاً بالعملية السياسية»، مضيفاً، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «الائتلاف ملتزم بتحقيق أهداف ثورة ديسمبر، المتمثّلة في تشكيل حكومة مدنية، ودمْج الجيوش، وإنشاء جيش قومي مهني موحّد يضطّلع بمهامه بعيداً عن السياسة».
لكن يبدو أن «المجتمع الدولي»، هو الآخر، متمسّك بإشراك أطراف بعينها في العملية السياسية، إذ إن «الرُباعية الدولية» (الولايات المتحدة، بريطانيا، الإمارات، السعودية)، استثنت، من مشاورات الإعلان العتيد، بعض المجموعات المُكوِّنة لـ«الكتلة الديموقراطية»، مقتصِرةً في اجتماعاتها التي عقدتْها الخميس الماضي، على «العدل والمساواة» و«تحرير السودان» و«الاتحادي الأصل»، فيما أعلنت «الآلية الثلاثية» (الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، إيغاد) أنها شاركت في الاجتماعات لدعم التوصّل إلى توافق.