حين تقع الكوارث الطبيعية في دول رأسمالية، حيث ثمّة سهولة مُطلَقة في الحصول على الموارد اللازمة لأعمال الإغاثة، وحيث لا يوجد، كذلك، نظام عقوبات يحدّ من القدرة على تمويل هذه الأعمال، تتغيّر طبيعة الكوارث نفسها، ولا تعود بمثابة قدر لا رادّ له. إمكانية التحكُّم بالكوارث أو احتوائِها، هي المحدِّد بهذا المعنى لحجم الأضرار الناجمة عن الكارثة، على اعتبار أنّ الرأسمال المادّي هنا يفوق نظيره الطبيعي قدرةً على جبه آثار الدمار. لذلك لا يبدو تعامل الدول الرأسمالية المتكرِّر مع الكوارث مماثلاً لنظيرتها النامية، حيث لا تقع في مرتبة متقدّمة على سلّم أولوياتها، ولا يُرصَد لها حصّة من الناتج المحلّي الإجمالي، شبيهة بتلك التي تُوضَع للموازنات العسكرية أو خطط الإنقاذ الاقتصادي. أي حيث القيمة المُضافة الفعلية للاقتصادات الرأسمالية، وحيث العائد أكبر بكثير من جَبه آثار الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل أو الفيضانات.
تصعيب احتواء الكوارث
المقارنة هنا ليست مجحفة فحسب، بل هي أساساً نتاج ما تقوم به الدول الرأسمالية بحقّ نظيرتها النامية. وغالباً ما تحصل العمليّة على شكل تسريع في وتيرة الانهيار الاقتصادي، وتكون النتيجة، بالإضافة إلى الانهيار نفسه، وصول هذه الدول إلى درجة العجز عن احتواء آثار الكوارث الطبيعيّة حين تقع. هذا التدخُّل الإمبريالي يتجاوز آثار التفاوت بكثير، ليصل إلى حدود، ليس فقط قَلْب عملية التنمية، أو منعها من الحدوث، بل أيضاً إعادة هذه الدول، عبر الأدوات الاقتصادية، مثل نظام العقوبات وسواه، عقوداً إلى الوراء، بحيث لا يعود مُتاحاً حتى توافر أبسط الخدمات التي تتطلّبها التنمية بحدّها الأدنى، مثل الكهرباء وشبكات الري والاتصالات وصيانة البنى التحتية و...إلخ.

النكوص إلى مرحلة ما قبل التنمية
الوصول إلى هذا الحدّ في إعاقة عملية التنمية، التي تطلّب إنجازُها عقوداً من العمل والتضحيات، يُعيد التعامل مع الكوارث الطبيعيّة حين تقع إلى المفهوم الذي كان سائداً قُبيل الانتقال إلى مرحلة التصنيع، حتى في الدول النامية. فقبل توافُر الخدمات التي تطلّبتها الصناعة لاحقاً، في طورها العالمثالثي، كانت الموارد المُتاحة لاحتواء الكوارث محدودةً جداً، وتكاد تكون مقتصرة على المدن الكبرى، حيث التركّز الكبير للخدمات يساعِد على جعل أعمال الإغاثة ممكنة أكثر، قياساً بما كان مُتاحاً حينها من إمكانات وموارد. أمّا في الأرياف التي لم تكن الخدمات قد وصلتها قبل الخمسينيات من القرن الماضي، فكانت متروكةً لتدبُّر أمورها بنفسها، لجهة التعامل مع الكوارث بأدواتٍ يصعُب تصوُّرها حالياً، لشدّة محدوديتها وانعدام قدرتها على مجابهة ما يبدو أنه "غضب الطبيعة"، أو القدر الذي لا رادّ له. النكوص مجدّداً إلى هذا الوضع، بعد سبعين عاماً أو أكثر من التقدُّم الصناعي النسبي، حتى في المدن، يعني أنّ الأدوات الاقتصادية التي تُستخدم في إعاقة التنمية هنا قد وصلت إلى حدٍّ جعلنا نعيش الكوارث الطبيعية، أو لِنَقل نتعامل معها كما كانت تفعل الأجيال السابقة، حين كانت الموارد أقلَّ بكثير، والتقدّم الصناعي أقلّ بدوره. أي حين كان يُترك الناس لمصيرهم، في ظلّ انعدام القدرة على مواجهة أبسط أنواء الطبيعة، فكيف بأكثرها سوءاً وكارثية، مثل الزلازل.
غالباً ما تحصل العمليّة على شكل تسريع في وتيرة الانهيار الاقتصادي، وتكون النتيجة، بالإضافة إلى الانهيار نفسه، وصول هذه الدول إلى درجة العجز عن احتواء آثار الكوارث الطبيعيّة حين تقع


تبعات التمييز في الكارثة الحالية
هذا يضع الكارثة التي تسبَّبَ بها زلزال تركيا في سياق أكبر وأعمّ، حيث التفاوت في التعامل مع الضحايا وتبعات الزلزال على البنى التحتية في كلا البلدين سابقٌ ليس فقط للكارثة، بل أيضاً لتحالفات الدولتين ونمط التنمية فيهما. والحال أنّ الكارثة التي وقعت على طرفي الحدود، وحصل بموجبها دمارٌ متساوٍ تقريباً، سواء في عدد الضحايا أو في حجم الدمار اللاحق بالبنى التحتية والمنشآت السكنية، لم يجرِ التعامل معها إقليمياً ودولياً بالقدر ذاته من التساوي. حصول التمييز كان طبيعياً، فتركيا مهما تمايَزت عن الغرب، في مواقفها من الأزمة الأوكرانية أو حتى السورية، بالتنسيق مع روسيا، تبقى امتداداً جيوسياسياً له، على الرغم من كلّ مناورات إردوغان لتنويع تحالفات بلاده، وبالتالي وضْعِه قدماً داخل العمق الأوراسي. وهذا يسهّل جهود احتوائها للكارثة أكثر بكثير من السلطة في سوريا، الحليفة العضوية لروسيا، والخاضعة لنظام عقوبات يجعل من وصول أبسط المساعدات إليها أمراً متعذّراً. تدفُّق المساعدات على تركيا بهذا المعنى، بخلاف سوريا، التي يخضع أي توريد إليها لرقابة صارمة من وزارة الخزانة الأميركية، يخلق شرخاً جديداً بين البلدين والنظامين، ويجعل الجهود للتطبيع بينهما أكثَرَ صعوبة، حتى مع الفصل الحاصل بين التنسيق السياسي وطبيعة العلاقات الأهلية التي تقع الكارثة في نطاقها. وهذا أمر يَصْعُب التحكّم به، لأنه ينتمي إلى السياق الجيوسياسي للصراع، ليس في الإقليم فحسب، بل في العالم أيضاً، حيث عزّزت الأزمة الأوكرانية من طبيعة التحالف بين الدول الغربية وأعادت الانتظام إليه، على نحوٍ يجعل من أيّ خروج عليه أو تمايزٍ عنه كما يفعل إردوغان أحياناً، بمثابة تواطؤٍ مع روسيا على ما تفعله في أوكرانيا.

الهوامش المتاحة للتحرُّك
الفرصة المُتاحة حالياً تقع في نطاق أضيق، فمع جهود الغرب لتكريس التمييز في التعامل بين البلدين، حتى على مستوى الكوارث الطبيعيّة، يصبح انتظام العمل الإغاثي أفضل، على محدودية موارده، حين يتوسّع عربيّاً. وهو ما بدا مُتاحاً، مع انفتاح أكثر من دولة عربية على جهود الإغاثة، مثل الجزائر والعراق ومصر ولبنان والإمارات... إلخ. الجسور التي مُدَّت عربياً في نطاق العمل الإغاثي قد تتحوّل لاحقاً إلى المستوى السياسي، حتى مع استمرار تجميد الحلّ السياسي في البلاد، إذ يَصعُب مع استمرار الأزمة الأوكرانية حصول توافق روسي أميركي يعيد العمل بعجلة التسوية إلى حيث كانت قبل ثلاث سنواتٍ أو أكثر. وما يسهّل عمل القنوات العربية أكثر هو خفوت حدّة الانقسام السياسي، وتواري طرفَي الانقسام خلف الأزمة الاقتصادية التي لا تزال تلقي بثقلها على البلاد منذ انتهاء الأعمال العسكرية في أواخر عام 2018. الانفتاح على الجهد الأهلي في هذه الحالة سينال على الأرجح إجماعاً أكبر، حتى مع استمرار الانقسام السياسي، لأنّ طبيعة الانقسام نفسه قد تغيّرت مع استفحال الأزمة الاقتصادية. في هذه المرحلة، لم تعد التسوية أولوية، ليس بالنسبة إلى السوريين، بل بالنسبة إلى الدول التي تدير الصراع في أوكرانيا. وهذا يجعل الهامش أكبر للتحرّك في سياقات أو مسارات لا تنطوي على تعقيدات مماثلة لتلك التي تنطوي عليها التسوية، وفي الوقت ذاته يمكن تحريكها محلّياً أو عربيّاً وإقليمياً، ومن دون الحاجة إلى توافقات بين روسيا والولايات المتحدة. كذلك يمكن الاستفادة في هذا السياق من الهوامش التي أُتيحت للدول النامية، بما فيها دول عربيّة، في سياق الصراع في أوكرانيا، للتحرّك خارج الاستقطاب الدولي الكبير، ولا سيّما لجهة التفلّت الجزئي من التحالف مع الغرب. وهو ما بدا مُتاحاً ولا يزال لتركيا أيضاً، على الرغم من التمييز الذي حصل لمصلحتها، على حساب سوريا، في كارثة الزلزال. إذ تبدو جهود الغرب محمومةً، حتى في هذا السياق، لضبط الحلفاء التقليديين، ومنعهم من التحرّك خارج الانتظام الذي أُعيد العمل به، بصرامة، بعد أزمة أوكرانيا.

* كاتب سوري