تونس | على رغم أن «الاتحاد العام التونسي للشغل» حرص، منذ بدء قيس سعيد «مساره الاستثنائي»، على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الرئيس وحكومته، والسعي إلى مُحاورته ومشاركته في إيجاد حلول للأزمات العاصفة بالبلاد، بعيداً عن خطاب المعارضة «الجذري» في رفْضه لإجراءات 25 تموز، إلّا أن سعيد ضاق أخيراً ذرعاً بالمنظّمة النقابية، وهو ما دفعه إلى إطلاق معركته ضدّها، غير آبه بالأثمان التي يمكن أن تستتبعها. أثمانٌ يمكن استشرافها من خلال تاريخ «الاتحاد» في النضال ضدّ الحكومات المتعاقبة، والذي راكم من خلاله رصيداً شعبياً يَصعب معه تصوُّر ترْكه وحيداً في تلك المعركة.
فرَغ الرئيس التونسي، قيس سعيد، من انتخاباته التشريعية التي لم يَسؤه ضعف المشاركة فيها، بل واستثمره لصالح مُحاججته بأنه كان على صواب حينما عمد إلى تقليص دور المؤسّسة النيابية عبر تعديل الدستور والقوانين الانتخابية، كوْن تلك المؤسّسة لم تَعُد محطّ اهتمام التونسيين، الذين لا يرغبون في وجودها أصلاً، بحسبه. ويستثمر سعيد، في تعاطيه البارد ذاك، في غياب أيّ موقف إقليمي أو دولي جادّ مناهِض لانتخاباته، بما يشمل الولايات المتحدة التي اكتفت وزارة خارجيتها بدعوة الرئاسة التونسية إلى مزيد من التشاركية في المرحلة المقبلة، ما يعني اعترافاً مبطناً بـ«شرعيّة» الاقتراع الأخير. والظاهر أن الإدارة الأميركية، التي شهدت الفترةُ الأخيرة تحرّكاتٍ مكثّفة للقائمة بأعمالها في تونس، تعتقد أن لا بديل في الوقت الحالي من الوضع القائم، وأن الحلّ الجذري ليس في متناول اليدَين. أمّا على المستوى الداخلي، فإن تحرّكات «جبهة الخلاص الوطني» وبقيّة أطياف المعارضة ظلّت محدودة التأثير والفاعلية، فيما بدا «الاتحاد العام التونسي للشغل» الوحيد القادر على استفزاز سعيد، وإخراجه عن طوْعه، إلى حدّ الظهور من ثكنة الحرس الوطني في العاصمة لإطلاق تهديدات ضدّ المنظّمة النقابية. تهديدات بدت أقرب إلى تصريح بنيّة الرئيس نقْل الصراع إلى مربّع جديد، عنوانه استخدام المؤسّسات الأمنية والعسكرية بمواجهة مُعارضيه، وهو ما أنبأ به أيضاً إيقافُ قيادي نقابي بعد خطاب الرئيس بساعات.
وجاء تحرّك سعيد الأخير ضدّ «اتحاد الشغل»، ليستكمل سلسلة خطوات كان الرئيس اتّخذها على طريق تهميش المنظّمة، وسحْب الامتيازات التاريخية منها، مِن مِثل الاعتراف بمنظّمات نقابية منافِسة وموازية لها، وإلغاء الاقتطاع الحصري من رواتب الموظفين لفائدة ميزانيتها بما يُفقدها مصدر تمويلها الأساسي. ومع ذلك، حرصت قيادات «الاتحاد» على عدم الدخول في صِدام مع سعيد ورئيسة حكومته نجلاء بودن، توازياً مع تكثيفها اتّصالاتها داخلياً وخارجياً من أجل إنجاح مبادرتها للحلّ، بل وأبدت رغبتها في العمل المشترك مع الرئيس. إلّا أن كلّ تلك المرونة لم تُعفِ أعرق منظّمات البلاد وأكثرها جماهيرية، من بدء الرئيس «حرباً» عليها، دشّنها باستعادة سلسلة مقولات دأبت جميع الأنظمة المتعاقبة قبل الانتفاضة وبَعدها على سوْقها ضدّ «اتحاد الشغل» - من دون أن تفلح سوى في توسيع دائرة المُدافعين عن الأخير -، بل واسترجاع الشعارات التي رفعتْها حركة «النهضة» لدى تسلّمها السلطة أواخر عام 2011، والقائمة على اتّهام النقابات بتعطيل عجلة الاقتصاد، والفساد والإثراء على حساب المال العام.
يتغاضى سعيد عن جملة مميّزات حالت سابقاً، وستظلّ تحول، دون إقصاء «اتحاد الشغل» من المشهد


يتغاضى سعيد، في معركته تلك، عن جملة مميّزات حالت سابقاً، وستظلّ تحول، دون إقصاء «اتحاد الشغل» من المشهد. فـ«الاتحاد» يُعدّ سليل الحركة الوطنية، وهو ذو مكانة اعتبارية في نفوس التونسيين، بعدما ارتبط اسم مؤسِّسيه الأوّلين بحرب الاستقلال ونيله. وفي وجدانهم أيضاً، اقترنت قيادات المنظّمة، بعد الاستقلال، بمعارضة خيارات الرئيس الأوّل للبلاد، الحبيب بورقيبة، وفشل الأخير في احتوائها، إلى حين اندلاع «انتفاضة الخبز»، وإصدار بورقيبة أحكاماً بالإعدام ضدّ تلك القيادات، قبل أن يتراجع عنها تحت الضغط المحلّي والدولي، ليَظهر - وهو الملقّب آنذاك بـ«حبيب الأمّة ومجاهدها الأكبر» - كمَن كُسرت شوكته أمام الأمين العام لـ«الاتحاد» حينها، الحبيب عاشور. وحتى الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، الذي نجح نسبياً في احتواء قيادات المنظّمة، فقد أخفق في ترويض النقابات المتفرّعة عنها، والتي ظلّت كابوساً بالنسبة إليه، وتولّت تأطير التحرّكات في انتفاضة 2011 التي انتهت بإطاحته. أمّا في ما تلا ذلك، فقد سُجّل لـ«الاتحاد» دور في الحوار الوطني الذي أزاح «النهضة» وحلفاءها من الحُكم سنة 2014. كذلك، لم تَغِب المنظّمة عن أيّ احتجاج عمّالي، وسعت إلى ضمان حقوق فئات متنوّعة، وشكّلت ملجأ للجهات المحرومة والمقموعة، كما اشتغلت على انتزاع زيادة في الأجور للموظّفين العموميين، بما يتناسب مع التضخّم والغلاء وانهيار المقدرة الشرائية، وهو ما يشكّل أحد عناوين الصِّدام الكبرى بينها وبين سعيد.
على رغم كلّ تلك المعطيات، لم يرتدع سعيد عن إطلاق مسار التضييق على «منظّمة الشغيلة»، عامِداً إلى تعيين الأمين العام المساعد السابق لـ«الاتحاد»، محمد علي البوغديري، على رأس وزارة التربية، في ما بدا محاولة للاستثمار في الخلاف الحادّ الذي نشب إبّان المؤتمر الأخير للمنظّمة بين البوغديري وأمينها العام الحالي، نور الدين الطبوبي، علماً أن الأوّل مُوالٍ للرئيس ومجاهِرٌ بذلك، وهو من مؤسِّسي مبادرة «لينتصر الشعب» التي خاضت الانتخابات التشريعية الأخيرة، وحصلت على عدد لا بأس به من المقاعد فيها. في المقابل، وبينما استغلّت المعارضة الموقف لتصعيد هجومها على سعيد، معتبرةً ما قام به «تهديداً إضافياً للديموقراطية وعبثاً بها»، حذّر «اتحاد الشغل»، على لسان الطبوبي، من «ضرْب العمل النقابي»، مؤكّداً «عدم تراجُع المنظمة عن القيام بدورها التاريخي في إنقاذ البلاد من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة». ولوّح المكتب التنفيذي لـ«الاتحاد»، بدوره، في بيان، بخوض جميع أشكال النضال السلمية ضدّ استهداف النقابيين، ما يعني أن البلاد ستكون مقبلة على موجة إضرابات، هي آخر ما تتمنّاه حكومة بودن العاجزة عن توفير موارد لميزانيتها.