لطالما شكّلت الرحلة جزءاً من الرواية الفلسطينية. من رحلة القسّام إلى «رجال في الشمس» وليس انتهاءً برحلات الموت عبر البحر المتوسّط وغابات أوروبا. وإن كان خيار «التنقّل» إكراهاً للفلسطيني، يبقى البحث عن جدوى التجربة خياراً حرّاً لا تقيّده ظروفٌ ولا اختلاف التجارب. فيما يلي عبورٌ سريع على تجربة فلسطينية في أوروبا، تنطلق من منظور الفئة المتعارف عليها باسم «فلسطينيي لبنان» ولا تتوقّف عند حدود الانعزالية، في محاولة لاستخلاص ما أمكن من الدروس والمفاهيم التي تصبّ في رحلة البحث عن الخلاص الجماعي لشعبنا العربي الفلسطيني.لعلّ أولى الصدمات التي يتلقاها الفلسطيني عموماً، وفلسطينيو لبنان خصوصاً، هي حقيقة عدم حصريّة اللجوء في الخارج، وهو أمرٌ شكّل جزءاً أساسياً من الهوية السياسية الفلسطينية على مدى عقود. ففي أوروبا، يذوب اللجوء الفلسطيني «الأول» في بحر اللاجئين القادمين من بلادٍ مختلفة، إلى أن يخالج المرء شكّاً حول جوهر هويته كلاجئ فلسطيني من خلال الطرح التالي: «الكلّ هنا لاجئ. فما الذي يجعل لجوئي مميّزاً؟».
والواقع أنّ هذه الصدمة، على عكس ما يظنّ البعض، هي فرصةٌ لتوسيع آفاق فهمنا لهويتنا كلاجئين فلسطينيين ضمن المسار السياسي العالمي. فمنذ البدايات، كانت هوية اللجوء تجسّد ركناً من أركان قضيّتنا العربية، لأنّ اللجوء بوصفه نتاجاً مادياً لعملية التهجير القسريّ التي يقوم عليها المشروع المُعادي، شكّل لنا مرآةً ننظر من خلالها إلى حقيقة صراعنا. وعبر هذه المرآة، تشكّلت لدينا غايةٌ جماعيةٌ تقوم على فكرة بسيطة وهي أنّ الخلاص من اللجوء وأزماته لن يتمّ إلا عبر التخلّص من مسبّب اللجوء، أي إسرائيل. ولهذا، تكمن ميزة اللجوء الفلسطيني بارتباطه السببيّ المباشر بالمشروع الصهيوني: فالمشروع هو سبب اللجوء، ونهاية اللجوء شرطه زوال المشروع. من هنا، وعلى رغم جبال المصاعب المُصاحبة للواقع، ظلّ اللجوء يشكّل مصدر قوّةً وغاية دفعٍ رئيسية للشعب الفلسطيني في الخارج، وخير دليلٍ على هذا الأمر هو الرفض الفلسطيني المُطلق للتوطين والاستعداد الدائم للتضحية من أجل هذه الغاية.
لكنّ الاصطدام بنماذج مختلفةٍ من اللجوء في الغرب يفتح الباب أمام خلطٍ (متعمّد في بعض الأحيان) بين اللجوء الفلسطيني ومفهوم اللجوء المجرّد. فالحكومات الغربية تتعامل مع اللاجئ بصفةٍ مجرّدة عن هويته، وهو ما يدفع بكثيرين إلى إذابة جوهر اللجوء الفلسطيني (الناتج من المشروع الصهيوني) في بحر اللجوء العالمي من دون تمييز. وخطورة هذه السياسة تكمن في نزع البُعد السياسي عن اللجوء الفلسطيني وحصره في الشقّ الإنساني الذي ينتهي -في أحسن الأحوال- بتحقيق بضع «انتصارات» فرديّة، لا تنفكّ ثمارها العامة تصبّ في مصلحة الإبادة المفروضة على شعبنا.
من جهة أخرى، فإنّ الاحتكاك بجموع اللاجئين غير الفلسطينيين في أوروبا، يكشف ارتباطاً شبه مباشرٍ بين اللجوء الفلسطيني وسواه. في قراءة سياسية سريعة، يظهر لنا بوضوح أنّ وجه الشبه الأساسي بين اللاجئ الفلسطيني واللاجئين الآخرين في أوروبا هو أنّنا جميعاً من بلادٍ تُعدّ «مصالح حيوية» في قاموس السياسة الخارجية الأميركية. من باكستان لأفغانستان، وصولاً إلى العراق وسوريا والسودان وليبيا وأقطار المغرب العربي كافة، لن تجد شريكاً في تجربة اللجوء لا تمتلك أميركا مخططات للسيطرة على بلاده أو كبح نهضتها لغايات سياسية واقتصادية. فهل هي مصادفة؟ بالطبع لا. إذ مهما تنوّعت الأحداث المباشرة التي تدفع بموجات الهجرة/التهجير، يظلّ السبب الرئيسي لهذه الظاهرة هو الهيمنة الغربية على مسار الأمم، وما تقتضيه هذه الهيمنة من نهب ثروات الشعوب وإفقارها وتقسيمها ومنعها من تحقيق نهضتها وكياناتها المستقلّة. من هنا، مهما بدا المشهد ضبابياً، لا يحقّ لأيٍّ منّا أن يتجاهل دور الحكومات الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، في التأسيس لنظامٍ عالميّ يقوم على اختلال الموازين بين عالم الشمال وعالم الجنوب. من هذا المنطلق، تكتمل صورة اللجوء الفلسطيني كمشهدٍ من مشاهد الهيمنة الغربية، وليس كاستهدافٍ متعمّد للفلسطينيين من دون سواهم.
وهكذا، يشكّل هذا الإدراك فرصةً حقيقيةً للخروج من عقدة «يا وحدنا» الانعزالية من دون الغرق في محيط اللجوء المجرّد من المحتوى السياسي. فما بين هذا وذاك طريقٌ مستقيم يستطيع فيه الإنسان الفلسطيني فهم حقيقة وضعه الراهن من زاوية سياسية شاملة، لينطلق منها نحو ترتيب الأدوات اللازمة لخوض صراعه.
ومن هنا تنطلق التجربة الثانية التي يتشارك في خوضها أغلب الفلسطينيين في الغرب، وهي تجربة «التضامن». ففي معظم الدول الأوروبية، يندر غياب مجموعات ترفع اسم فلسطين أو تنادي بالتضامن مع الشعب الفلسطيني. وفي أغلب الأحوال، تتشكّل هذه المجموعات من الغربيين أنفسهم (سواء كعمودٍ فقريّ للمجموعة أو بشكلٍ شبه كامل)، ويعتمد أغلبها استراتيجية الضغط على الحكومات من خلال مطالب حقوقية وسياسية كرفع الحصار عن غزة أو «وقف سياسة الأبارتهايد». وللوهلة الأولى، تجذب هذه المجموعات جزءاً لا بأس به من الشباب الفلسطيني لأسباب عدة، منها النفسيّ-العاطفي كالحاجة إلى مقاومة الإحساس الدائم بالعجز أو محاولة التعرّف إلى مساحات آمنة للتعبير عن الذات والانسجام مع المحيط. لكنّ الصدمة التي يتلقّاها الإنسان الفلسطيني عند خوض هذه التجربة ليست سلبيةً بالضرورة، وجوهرها لا يتعلّق بنوايا المسؤولين عن هذه المجموعات.
أوّل أشكال الصدمة يظهر عبر غلبة «البياض» على مجموعات التضامن مع فلسطين، أي هيمنة العامل المحلّي (بشكل كبير) على الخطاب والنشاط وتحديد غاياته. والتبرير الأساسي لهذه الظاهرة يكمن في حاجة خطاب التضامن مع فلسطين إلى «حماية» يؤمنها المواطن الأوروبي من دون سواه. فحكومات الغرب تتمثّل بديموقراطية أثينا، حيث حرية الاختيار والتعبير عن الرأي مطلقة للجميع... ما عدا العبيد!
ومن هنا ننطلق إلى الشكل الثاني من أشكال الصدمة، وهو سقف الخطاب المتضامن مع فلسطين في هذه المجموعات. فخطاب «مناهضة الأبارتهايد» و«المساواة» هو أقصى ما قد يصل إليه التضامن الأوروبي. وذلك تعميمٌ لا تحبّذه الأقلام ولا الألسن، ولكن يفرضه الواقع. فالتضامن الغربي مع القضية العربية تتوقّف حدوده عند المسّ بوجود «إسرائيل». لماذا؟ لأنّ «إسرائيل» هي ببساطة عنوان النظام العالمي القائم على الهيمنة الغربية، وبفعل الهيمنة، ينتج فائضٌ ماديٌّ يسمح لفئات المجتمع الغربي كافة بالارتقاء إلى مستوى معيّن من المعيشة والحماية الاجتماعية (المتفاوتة) التي توفّرها الدول كنتاجٍ لهذا الفائض. ومن دون هذا الفائض، لن يجد الأوروبي أُسس منظومته الاقتصادية والقيمية بهذه السهولة. لهذا، فإنّ أي تصوّر عن تغيّرات شعبية جذرية محتملة في الرأي العام الغربي من شأنها أن تساعدنا على تحقيق غاياتنا، هو ضربٌ من الوهم. وخير دليلٍ على ذلك هو ندرة الصوت الفلسطيني الجذري في هذه الدول، الذي وإن ظهر، سيظلّ كما كان منذ سبعة عقود، مطارداً وحيداً لا يستحقّ كرم الديموقراطية الغربية! وذلك أمرٌ مفهوم، لا يتوقّع عاقلٌ سواه، لما يشكّله هكذا نشاط من خطرٍ على منظومة الهيمنة.
لكن، ومن جهةٍ أخرى، ثمة «تضامنٌ» أشدّ أثراً لا تدركه الأضواء ولا تشير إليه الضوضاء. بين نخوة شابٍ جزائريٍّ يقدّم لك خدمةً مجانيّةً فقط لأنّك من «فلسطين الحبيبة»، إلى دموع عجوزٍ باكستاني يسأل الله أن يمنّ عليه الصلاة في المسجد الأقصى (مُحرّراً) قبل قدوم الأجل، تفاصيل كثيرة قد تبدو هامشية، ولكنّها ترسم خريطة جدية لمفهوم «التضامن». مفهومٌ قوامه إدراكٌ فطريٌّ لحقيقة الصراع القائم في العالم، وما ينتجه من مآسٍ على شعوبٍ عزيزة قدّمت للبشرية كنوزاً من العمل والمعرفة والقيم. هنا يدرك المرء أنّ التضامن، كما اللجوء، مصطلحٌ خبيث ما لم يُعرّف في سياق الحرب القائمة ضد شعوبنا.
ختاماً، كتب غسّان كنفاني لابنة أخته لميس جملةً شهيرةً: «لا يمكنك أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة». هكذا هي حال الفلسطيني في بلاد الغرب، إذ لا يمكننا أن نتوقّع ملامسة حريّتنا من أروقة الغرب، ولا يجوز لنا التعويل على الوهم عوض اجتراح الجدوى في معركتنا نحو الحريّة. لذا، من واجبنا كفلسطينيين إدراك حدود التجربة في الغرب، ومحاولة استقاء ما أمكن من معانٍ تضفي إلى وعينا ووعي الأجيال القادمة صلابةً وصموداً.