خرج سطر الشاعر محمود درويش الشعري «القمح مرٌ في حقول الآخرين.. والماء جارح» من حيّز تجربته الذاتية، ليصبح تجربة جمعية عايشها الآلاف من مهاجري القطاع، عقب حرب عام 2014. لم يعد خيار الهجرة من الوطن طرحاً شاذاً، بل تحول «مشروع العمر»، ليس للشباب الذي لم يجد فرصة لتكوين نفسه فحسب، إنما للمئات من الكفاءات المهنية والعملية. غير أن الصور الجميلة التي تضج بها وسائل التواصل الاجتماعي، لا تعكس حقيقة أوضاع المهاجرين، يقول المصور الصحافي محمود أبو سلامة: «إن الحكم على العيش في الغربة، انطلاقاً من صورة بديعة لأحدهم أمام مضيق البوسفور، هي أعلى درجات الخديعة، خلف هذه الصورة الجميلة، ثمة حياة مزدحمة بالمصائب والصراع لتأمين لقمة العيش، العمل لأكثر من 12 ساعة يومياً لتدفع أجرة المسكن... انعدام الأمان الاجتماعي والشعور بالفراغ». يتابع الشاب، الذي هاجر من غزة إلى تركيا لمدة خمس سنوات ثم عاد أخيراً بسبب ظروف عائلية خاصة، حديثه إلى «الأخبار»: «عندما تركت القطاع، كنت قد استنفدت كل محاولاتي للحصول على وظيفة، أو مصدر دخل شهري مستقر، لكني لم أوفق، كان خيار الهجرة هو الخيار الأخير، تجربتي كانت جيدة، رغم أن تجارب أكثر من رأيت من المهاجرين، كانت من أسوأ ما يكون، الشعور بالوحدة وانعدام السند، شعور قاسٍ».
تتقاطع تجارب المهاجرين في عاملين مشتركين، الأول هو التحدي الثقافي والاجتماعي، والثاني هو الشعور الحادّ بالاغتراب


أمّا الصحافي محمد عثمان، فقد اضطر لترك القطاع عام 2016، بعد نشره تحقيقات استقصائية عدة، كشفت فساد بعض الجهات المتنفّذة، وبعد تراكم المشكلات، وضيق فرص العمل، خرج من غزة باحثاً عن عمل ضمن تخصّصه في مصر، قبل أن يقرر الهجرة إلى بلجيكا، يروي تجربة الهجرة لـ«الأخبار»: «لم أكن أفكر في الهجرة، لكني لم أنجح بالعمل في مجالي الصحافي في مصر، لذا اضطررت للهجرة وأنا لا أمتلك تصوراً مسبقاً عن الحياة هناك» يواصل: «اضطررت للعمل في غير تخصصي، في مهن مثل قطف الفواكه والعمل في مصنع للأجبان، كان علي التأقلم مع كثير من التفاصيل غير المرضية».
تتقاطع تجارب المهاجرين في عاملين مشتركين، الأول هو التحدي الثقافي والاجتماعي، والثاني هو الشعور الحاد بالاغتراب، يقول الشاب أحمد جمال، الذي كان قد هاجر من القطاع قبل 10 سنوات، أن الحياة في النرويج وفرت له كل ما يشتهي، خصوصاً أنه لم يهاجر بدافع البحث عن عمل أو الحاجة المادية، إنما في سبيل العيش في ظروف حياتية مستقرة غير مهددة بالحروب. يستدرك الشاب الثلاثيني الذي كان يعمل محاضراً جامعياً في القطاع: «لم تكن فكرة العودة إلى غزة حاضرة في ذهني، إلا عندما كبر أطفالي الثلاثة، في كل عام دراسي يحاصرني تحدي خروجهم في رحلات تخييم مشتركة، رفضي الدائم عرضني للمساءلة... من المستحيل أن يكبر أبنائي بذات القيم الدينية والاجتماعية التي تربينا عليها في مجتمعاتنا، المدرسة والشارع وكل التفاصيل تزاحمني تربيتهم». يواصل حديثه إلى «الأخبار»: «ثمة تحدٍّ لا يقل صعوبة، هو الوحدة، الغربة، الشعور القاسي بغياب السند الاجتماعي، ويتضاعف ذاك في الحروب، يحاصرنا القلق على ذوينا وأهلنا، نشعر حينها بأن الرفاه الاقتصادي والحياة الراقية، أصفار على شمال كل التفاصيل التي نفقدها».