مبادرة اشبه بمحاولة جديدة لتثمير المجازر الإسرائيلية سياسياً. اختبار جديد لمدى نضج فصائل المقاومة الفلسطينية من أجل تقديم تنازلات. لعله التوصيف الأدق لذاك الاقتراح الذي عرضه جون كيري من القاهرة أمس بمعية الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ووزير الخارجية المصري سامح شكري، والأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي. الأربعة تحدثوا في الإطار نفسه انطلاقا من «الواجب الإنساني» والمبادرة المصرية.
صحيح أن كيري نفى أنه جرى التوصل إلى أي اتفاق يضع حدا للحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، مشيرا الى أن خلافات لا تزال قائمة بين الطرفين حول «الصيغة» المتعلقة بوقف الحرب، مضيفا مع ذلك أن لديهما «إطارا اساسيا» لهدنة، لكن اسرائيل سارعت إلى تلقفها، وفق قاعدة «لا ولكن»، بمعنى لا للمبادرة في محاولة لاستدراج المزيد من المكاسب، لكنها مع هدنة انسانية لـ12 ساعة قابلة للتجديد تبدأ من الساعة السابعة من صباح اليوم.

الاقتراح يتضمن نزع الصواريخ وتدمير الأنفاق في مقابل رفع الحصار وإعادة الأعمار

واقع لا بد أن تكون «حماس» قد أدركته، وبالتالي يفسّر عدم استعجالها في اتخاذ قرار بالرفض أو القبول على قاعدة أنها «تدرس» المسألة. ولعلمها بأن «فخ كيري» وضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرفض وبالتالي إعطاء جيش الاحتلال مشروعية دولية لمواصلة حرب الابادة التي يشنها ضد القطاع، أو قبول الاقتراح وبالتالي الدخول ضمن مسار تضبط إيقاعه الولايات المتحدة ومصر ومن خلفهما تل أبيب، اختارت محاكاة الموقف الإسرائيلي بقبول هدنة الـ12 ساعة.
سامح شكري وزير الخارجية المصري قال إن أيا من الطرفين الفلسطيني أو الإسرائيلي لم يبد إرادة كافية للتفاوض. وأضاف، كما طلب كيري، أن تدعو مصر إلى هدنة إنسانية مدتها سبعة أيام.
كيري الذي عبر عن قلقه من شعور مواطني الاحتلال بالخطر من صواريخ «حماس»، قال إنه لم يسلم نسخة رسمية من مقترح وقف إطلاق نار، مشيرا «أنهم ربما رفضوا بعض العبارات في المقترح لا الإطار، لكن لم يحدث أن تقدمت بمقترح من جانبي».
ومن المقرر أن يتوجه الوزير الأميركي اليوم إلى العاصمة الفرنسية حيث سيلتقي نظيريه التركي والقطري، اللذين يعدان واجهة الحديث مع «حماس». وهو ما أعلنه وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، الذي أضاف إن في باريس نظراءه البريطاني والألماني والإيطالي إضافة الى نظيرته الأوروبية، كاثرين آشتون «لبحث الوضع في غزة» ضمن اجتماع دولي في مقر وزارة الخارجية صباحا. وأضاف مصدر فرنسي: «هدف الاجتماع دعم المبادرات الجارية وفي الدرجة الأولى المبادرة المصرية في أقرب وقت ممكن».
على جانب المقاومة، عبر مسؤول في «حماس» عن أن موقف الحركة من الهدنة الطويلة لم يتغير وهو على حاله. ووفق المسؤول نفسه، فإن الاقتراح الأميركي يتضمن «وقفاً لإطلاق النار لمدة أسبوع دون أن تنسحب القوات الإسرائيلية من غزة، وتواصل العمل ضد الأنفاق، وخلال وقف إطلاق النار تجرى مفاوضات بين إسرائيل وحماس بوساطة مصرية». وأشار في الوقت نفسه إلى أن «واشنطن والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي سيضمنون للطرفين أن المفاوضات حول الترتيبات النهائية ستبحث قضايا مهمة للطرفين، وهي نزع أسلحة الصواريخ والأنفاق بالنسبة إلى إسرائيل، ورفع الحصار، وإعادة بناء قطاع غزة بالنسبة إلى حماس».
وبرغم رفض المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر بالإجماع (علي حيدر)، مبادرة كيري لوقف النار، بدا من الإيحاءات أن اسرائيل في موقع مريح وتعمل على الدفع باتجاه استمرار القتال بأي ثمن، لكن ظروف ومعادلات الواقع الميداني والخيارات البديلة تفرض مقاربة مغايرة لما ينطوي عليه نص القرار، الذي تضمن أيضا، تاكيد إبقاء الباب مفتوحا لنقاش إضافي من أجل «تطوير المبادرة».
وبدلا من أن تحدد إسرائيل موقفها، وفق سياسة «نعم ولكن»، كما فعلت في محطات سابقة، فإنها اختارت هذه المرة التعبير عن موقفها وفق قاعدة «لا للمبادرة... ولكن». يبدو أن الفراغات التي تلي كلمة «لكن» هذه المرة أكثر حضورا من موقف الرفض نفسه. وهو ما ظهر جليا في غياب موقف رسمي نهائي يطوي صفحة المبادرة.

مؤتمر دولي في باريس
اليوم بمشاركة تركيا وقطر
لبحث اقتراح كيري

لماذا هذه المناورة؟ يؤكد موقف الرفض الاسرائيلي وإبقاء الباب مفتوحا في الوقت نفسه، أن هناك محاولة لاستدراج المزيد من المباحثات من أجل تعديل المبادرة كي تصبح أكثر مقبولية. ويؤكد أن هناك نوعين من الاعتبارات المتعارضة التي حضرت على طاولة المجلس الوزاري المصغر. فمن جهة، تدرك تل أبيب أنها بعد مضي أكثر من أسبوع على العملية البرية، باتت على مفترق طرق. لذا ينبغي لها تحديد خيارها العملاني المتصل باليوم الذي يلي، وخاصة أن المقاومة لا تزال تملك المبادرة لجهة إطلاق الصواريخ أو استهداف الجنود في الميدان.
أما لجهة الخيارات البديلة، فبات من الواضح جدا أن إسرائيل تدرك أثمانها السياسية والأمنية المؤلمة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أنها لن تقدم على أي منها. وتراوح هذه الخيارات بين المراوحة التي تحول جنودها إلى أهداف مشروعة بصفتها قوة احتلال للقطاع، وبين توسيع العملية البرية التي باتت تدرك القيادة أنها ستنطوي على خسائر بشرية مؤلمة، وقد تدخلها في أفق مجهول النتائج والتداعيات. فضلا عن أن الانسحاب الأحادي الجانب ستستغله المقاومة لتسويق صورة الجيش الذي فر تفاديا لمواجهة أوسع، كما لن يكون هذا الانسحاب ملزما للمقاومة في وقف النار لأنها ترفض أن يجري دون تحقيق مطالبها برفع الحصار، مع الإشارة أيضا إلى أن الاحتلال يمكنه أن يستغل الوقف الأحادي لتبرير وبناء مشروعية خيار عسكري أكثر دموية.
أخيرا، تدرك تل أبيب أن الرفض النهائي والمطلق لمبادرة كيري قد يلحق ضررا بالغطاء الأميركي والدولي الذي تغنى به نتنياهو، وقال إنه واكب العملية العسكرية منذ بداياتها، بل حتى في ذروة المجازر التي ارتكبها جيشه. وهو أمر لا شك أنه حضر بقوة على طاولة المجلس الوزاري المصغر.
على ضوء ما تقدم، يمكن القول إن إسرائيل تسعى فعلا إلى وقف الحرب، وهو ما كانت تأمله خلال الأيام السابقة، ولكن ليس بأي ثمن. لذا فإن ما يهم نتنياهو هو التوصل إلى ما يمكن تسويقه في الداخل الإسرائيلي على أنه إنجازات منتزعة بفعل صلابة الموقف، فضلا عن البعد الواقعي لما تمثله الأنفاق من تهديد. وفي الخلاصة، الأمور تبقى مفتوحة على إمكانية إخفاق معتبرة، برغم جدية المساعي السياسية من كل الأطراف.
الى ذلك، يفترض، نظريا، أن يمنح تعبير «اتفاق مؤقت لمدة اسبوع»، كلا الطرفين «حق» فتح النار، إذا لم يجرِ التوصل الى اتفاق يحظى برضاه ويلبي مطالبه. وعلى ذلك، يمكن لكل من الطرفين أن يجد في هذه الفقرة بوابة للعودة الى الضغط، إذا لم تتبلور صيغة تحظى برضاه.