غزة | غطّت غيمة ملبدة بالموت سماء بلدة خزاعة شرق خان يونس. شمس البلدة توارت عن الأنظار، بعدما خفَت وهج السماء وخبا ضوء الحياة على الأرض. في كل زاوية في البلدة كان الموت يكشّر عن أنيابه ويقتات أجساد قاطنيها. الشهداء مسجّون بدمائهم على شوارع خزاعة، والجرحى ينزفون حتى الموت، فيما أصوات الأطفال ترتجف من فرط الموت.
قصصٌ تتوالد كل لحظة، ومعها تدقّ ساعة صعود أرواح عائلاتٍ بأكملها إلى السماء. أحيت خزاعة مجدداً فصول الموت التي عاشها الشجاعية بكلّ تفاصيلها الدقيقة؛ فالمنازل باتت أكواماً من الركام على امتداد النظر، والأشجار الباسقة الضاربة جذورها في الأرض استحالت رماداً.
صوّب الاحتلال عينيه على خزاعة وقذف حمم الموت نحو سكانها منذ نحو أربعة أيام. لكن مع انبلاج فجر أول من أمس، ذابت ملامح الحياة في البلدة. مارست مدفعية الاحتلال جنونها على نحو هستيري، فحوّلت البلدة إلى كتلة مشتعلة من اللهب والنار. كذلك راحت قوات الاحتلال الخاصة تتسلل إلى شرق البلدة عبر معبر صوفا، وتعتلي أسطح المنازل تحت غطاء مدفعي كثيف، فيما فصلت الدبابات البلدة تماماً من جهة الغرب والجنوب عن مدينة خان يونس.
لم تُشفِ المدفعية غليل الاحتلال، فعمد جنوده إلى خدش حيوات الغزيين بمخالب الموت الصلفة، مُطلقين صواريخ الإف 16 على منازلهم.

حولت مدفعية الاحتلال البلدة
إلى كتلة من اللهب والنار

بعدما أحس السكان بأن طيف الموت يحاصرهم، باشروا بالتنقيب عن معبر للحياة، لعلهم يظفرون بأرواحهم. خرجوا من بيوتهم رافعين الشارات البيضاء، لكن الاحتلال بالطبع لم يرف له جفن. شبك الرجال أيديهم بأيدي نسائهم وأطفالهم، غير أن غزارة النيران فكّكت تشابك تلك الأيدي المرتعشة خوفاً، وطرحت بعضاً من أصحابها على الأرض. على موعدٍ مع انتظار طواقم الإسعاف والصليب الأحمر عند مدخل البلدة، اندفع أولئك إلى الشوارع، لكن ريثما حطّت أقدامهم في تلك الشوارع، وجدوها خاوية على عروشها إلا من قوات الاحتلال التي تمترست عند جميع محاور البلدة. 30 مصاباً سقطوا مغشيين على الأرض، لتبدأ رحلة المعاناة بمحاولة جرّهم إلى داخل عيادة أحد أطباء البلدة، لكن سرعان ما تبدّدت آمال النجاة باستهدف الاحتلال العيادة. ويقول أبو علي قديح، شقيق الطبيب كمال قديح صاحب العيادة لـ«الأخبار»: «حين أخبرتنا طواقم الصليب والإسعاف بأنها تنتظرنا عند مدخل البلدة، تسابق 1000 شخص على مغادرة منازلهم، لكننا فوجئنا بعدم وجود تلك الطواقم، لتبدأ المدفعية وزخات الرصاص تنهمر علينا من كل حدب وصوب». ذرف أبو علي الدموع على شقيقه أحمد الذي سقط شهيداً داخل العيادة، فبقي متجمّداً في مكانه يراقب فقط كيف يذوب جسد شقيقه أمام ناظريه في ظل الطقس الحار. ويضيف أبو علي: «دموعي جفّت بعد أن رأيت جثة أخي تتحلل. عشت صراعاً صعباً بين أن أحرس هذه الجثة الآخذة في التآكل بعينيّ، وبين أن أنقذ الأحياء منا». حسم أبو علي أمره، وأعلن أن الرحيل عن منزلهم الحامل لنسيم روح شقيقه قد أزف. ضاقت فسحة العيش، وسُدّت كل منافذ النجاة، فما كان أمامه إلا أن يلقي نظرة الوداع الأخيرة على شقيقه، ويرحل عن المنزل برفقة 40 شخصاً من عائلته. وبينما كان يسير بين الطرقات، كانت رائحة الموت تعبق بالمكان. فعشرات الجثث المبتورة أجزاؤها ملقاة على الأرض. مرّ من أمام جثث أقربائه رامي وإبراهيم وعلياء والحاج عبد، لكن ما باليد حيلة، فنفذ أبو علي بجلده حتى وصل إلى مكان آمن نسبياً. قرع باب إحدى مدارس خان يونس ليحتمي بداخلها، غير أن الصفوف كانت قد امتلأت، ما اضطره وعائلته إلى البقاء في ساحة المدرسة وأشعة الشمس الحارقة تضرب أجسادهم. بعد ساعات انتظار طويلة، عادت العائلة أدراجها، فلم تجد خياراً أمامها سوى التوجه إلى ديوان آل عويضة المفروش ببضع حصائر بسيطة، حيث ستبيت العائلة هناك بصحبة عائلات أخرى نازحة.
شهد أمس أكبر موجات نزوح عن البلدة، بعدما انهالت القذائف المدفعية على «بدروم» (القبو) تحصّن بداخله حوالى 300 فرد. هؤلاء تحسّسوا في الظلام الدامس طريقهم نحو طوق النجاة، بعدما قصف الاحتلال جميع أسلاك وخطوط الكهرباء، كما فجّر خطوط المياه كافة. أقدامهم ارتعدت رعباً، وهي تحاول القفز بين جثث 3 أطفال طفت أحشاؤهم على رصيف الشارع. ويقول حسن أبو رجيلة لـ«الأخبار»: «سمعت بأذنيّ زفرات الموت تخرج من امرأة حامل بعدما اخترقت إحدى الشظايا صدرها، فيما كانت قريبتي سامية (48 عاماً) تزحف على الأرض بعدما أصابها الاحتلال بشكل مباشر». من تحت الأنقاض صدح صوت الحياة، لكن الاحتلال حاول كتمه وإطفاء جسد صاحبه. هنا، راح حسن يقصّ لنا حكاية أحد أقربائه بحرقة شديدة، قائلاً: «هدم الاحتلال منزل قريبي الحاج حلمي على رؤوس ساكنيه، فاستشهد وابنه، لكن ابنته المريضة نفسياً ظلّت على قيد الحياة، وصارت تصرخ وتتأوّه من تحت الأنقاض»، ويضيف والحزن يغمره: «حينما هممنا بالخروج من منزلنا لإنقاذ ناهد، أطلق الاحتلال رصاصه نحونا، فاضطررنا إلى أن نعود أدراجنا. حتى اللحظة، لم تتمكّن سيارات الإسعاف من الوصول إليها، ولا أعلم إن كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة أو لا». معظم من بقوا على قيد الحياة بعد هذه المجزرة البشعة يؤكّدون لـ«الأخبار» أن عدد الشهداء الممددين تحت أنقاض منازل البلدة يفوق مئة وخمسين شهيداً. ويقول محمد النجار لـ«الأخبار» بلهجته المحكيّة البسيطة: «على قد بشاعة مجزرة الشجاعية، لسة اللي صار بخزاعة أفظع بمليون مرة. عمري ما عشت زي هيك حرب. كنّا 250 واحد من عيلة النجار متجمعين بدار وحدة بدون مي ولا كهربا ولا تلفونات. شفت أشلاء أولاد عمامي وقرايبي قدام عيني. والله حرام اللي بصير!». وحتى يوم أمس، نجحت سيارات قليلة من سيارات الإسعاف المحلية والصليب الأحمر في الدخول إلى البلدة، وانتشال جثث بعض الشهداء.