لم يستطع الإعلام الغربي تجاهل الـ600 شهيد فلسطيني. المأساة كانت أقوى من إرادته في تحريف الواقع لمصلحة إسرائيل، كما اعتاد. صور لمجازر يومية، عناوين يلفّها الموت، كلام عن ردّ فعل إسرائيلي عشوائي، عبارات إنسانية خجولة على مواقع التواصل الإلكتروني... الصحافيون الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون تأثروا بما رأوه بأمّ أعينهم، لكن ذلك لا يعني أن الإعلام الغربي بات مناصراً لقضية من استشهدوا ومعادياً لإسرائيل!
هي المشاعر الإنسانية فقط تحرّكت عند بعض المراسلين أمام مشاهد العنف الوحشي فكتبوا ــ على غير عادتهم ــ أموراً لا تصبّ في مصلحة إسرائيل ونشروا صوراً تناقض حملات تجميل الكيان الصهيوني التي تتبنّاها مؤسساتهم وتروّج لها يومياً منذ عقود. والنتيجة بعد أسبوعين من بدء الحرب اقتصرت على تغيّر طفيف في لهجة التغطية لمصلحة الطرف الفلسطيني، يقابله استمرار محسوم في الافتتاحيات بدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن وجودها... وتحميل مسؤولية المجازر لـ«حماس».
نهج الدفاع عن إسرائيل ذاك وتبرير أفعالها ليسا حكراً على الإعلام الموالي لإسرائيل كلياً، بل ينتهجهما أيضاً الإعلام السائد الأكثر انتشاراً في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. أما الإعلام المصنّف «يسارياً»، فقد كان واضحاً في إدانته للهمجية الإسرائيلية ودفاعه عن الظلم الذي يتعرّض له الفلسطينيون، لكن أيضاً مع عدم تبنّيه حق الفلسطينيين في حركة مقاومة يمكن أن تمسّ بأمن إسرائيل أو تهدد وجودها. على الشاشات الأميركية الوطنية انتشرت صور للشهداء الفلسطينيين وللدمار الهائل الحاصل في غزة، وذلك بشكل متساو مع صور انتحاب عائلات قتلى الجيش الإسرائيلي وزملائهم وهلع المواطنين الإسرائيليين مع إطلاق صفارات الإنذار في مختلف مدن الاحتلال.

تضليل وتحريض إثني

هي حرب بين «اليهود» و«المسلمين»، هكذا تراها «فوكس نيوز» المحطة الأكثر مشاهدة في الولايات المتحدة. «فوكس» تكثر من استخدام كلمات «يهود» و«عرب» و«إسلامي» في تقاريرها عن أحداث غزة، فتعيد، كعادتها، الصراع الى أسباب إثنية ــ دينية تضرب فيها على وتر حساس لدى يهود الولايات المتحدة وداعميهم. «سي أن أن» من جهتها تولي اهتماماً أكبر لتقارير حول «الضحايا الفلسطينيين»، لكن مع الحفاظ على سقف واضح في تسويق رؤية إسرائيل للحرب والترويج لوجهات نظر جيشها.

تكثر «فوكس نيوز» من استخدام كلمات «يهود» و«عرب» و«إسلامي» في تقاريرها عن أحداث غزة

حاولت صحف الإعلام السائد ألا تتغاضى عن فداحة المجازر التي ترتكب في غزة، لكن مع الحفاظ على عنوان عريض في حق إسرائيل بالردّ على هجوم «حماس». وهنا يسجّل اختراق بسيط لمقال نشر في «ذي نيويورك تايمز» أمس من خان يونس يغمز من قناة إسرائيل بشأن «تكتيكات» قصفها العشوائي، ويبيّن عدم مصداقية ادّعائها استهداف مقاتلي «حماس» فقط. لكن مقال الـ«تايمز» هذا كانت قد سبقته مقالات عدّة وافتتاحيات شددت على «أحقية إسرائيل في الدفاع عن نفسها وردّ هجمات حماس الصاروخية». خطيئة إعلامية أخرى تكريس الحرب الدائرة «حرباً إسرائيلية على حماس». هي «الحرب الإسرائيلية على حماس» كما كانت قبلها «الحرب الإسرائيلية على حزب الله»، هكذا يعمد الإعلام الغربي الى تضليل الرأي العام بتصوير العدوان الإسرائيلي على شعب كأنه حرب متكافئة بين طرفين محددين إسرائيل وحماس أو إسرائيل وحزب الله فقط. هكذا تخرج كل المجازر بحق المدنيين من الصورة وتبقى فكرة خوض إسرائيل حرباً طبيعية مع عدو «إرهابي» محدد.

حماس تقتل أطفالها

«لنكن واضحين: لا أحد يحبّ رؤية أطفال مقتولين.. لا أحد ما عدا «حماس»»، كتب ثاين روزنباوم في صحيفة «ذي وول ستريت جورنال» في تعبير صريح عن رأي صحافيين كثر لاموا «حماس» على المجازر التي شاهدوها. روزنباوم أبدى انزعاجه من وضع إسرائيل في خانة المعتدي الظالم كل مرة وحشرها في زاوية ضيقة، بينما تكسب «حماس» حرب العلاقات العامة. الكاتب والروائي لام الفلسطينيين على انتخاب «حماس» وحماية مقاتليها: «ما الذي كانوا يتوقعونه عندما انتخبوا حماس؟» سأل. لكن مقال روزنباوم استدعى ردّاً مستنكراً من مات بروانيغ على موقع «صالون» الذي اتهمه بأنه «يفكّر تماماً كإرهابي». بروانيغ شبّه روزنباوم بأسامة بن لادن من حيث طريقة التفكير التي تحلل قتل من يدعم سياسة لا يؤيدها.
فرنسياً، واظبت «ليبراسيون» و«لو مانيتيه» على إيلاء الكارثة الإنسانية بحق الغزيين أهمية كبيرة في التغطية، وخصصت أكثر من غلاف للموضوع الحدث. «لو موند» حاولت التوفيق بين الصرخة الإنسانية وعدم استفزاز اللوبي الإسرائيلي، وبرز فيها أمس مقال رأي يدعو إسرائيل الى «وقف احتلالها للأراضي الفلسطينية» لجان بول شانيولو.
المحطات التلفزيونية الفرنسية قاربت الحدث أيضاً بحرص شديد على إعطاء مساحة للموالين لإسرائيل بالظهور والكلام. لكن زخم التغطية والاهتمام بالخبر الآتي من غزة بدأ يتراجع في معظم الإعلام الفرنسي لمصلحة التركيز على أحداث الشغب التي شهدتها التظاهرات الفرنسية المؤيدة لفلسطين واستنكار «رفع شعارات معادية للسامية» فيها. تراجع مساء أمس الخبر الفلسطيني حتى الى ما بعد أخبار الطائرة الماليزية في «لو فيغارو» و«لو نوفيل أوبسيرفاتور» و«لو موند».
عبّر الإعلام الفرنسي عن إدانته لما يحصل في غزة من دون المساس بهالة إسرائيل الحليفة. لم تتشح المذيعات الفرنسيات بالسواد (على المحطات العامة والخاصة) حداداً على أطفال غزة كما فعلن يوم قتل 3 أطفال يهود فرنسيين في تولوز عام 2012. استنكر الإعلام الغربي قتل أطفال الشاطئ ومجزرة الشجاعية، صحيح، لكنه لم يتجرّأ على إدانة المرتكب.
ما يفعله الإعلام الغربي حالياً تجاه الفلسطينيين ليس إلا تأدية واجب مهني ــ إنساني مؤقت. بعدها، ستنسى الشاشات غزة وستعود الأقلام لخدمة سياسة إسرائيل والدفاع عن أمنها والتسويق لسياحتها!




اللوبي الإسرائيلي غير مرغوب فيه

«إنه لمن واجبنا كمواطنين أميركيين ومواطنين من هذا العالم أن نجبر السياسيين على فعل الصواب، أي إرغام إسرائيل على إنهاء احتلالها وتحرير فلسطين في ما بعد»، هكذا اختتمت صحيفة «ذي نايشن» الأميركية ذات الميول اليسارية إحدى افتتاحياتها قبل أيام. الصحيفة اعتمدت لغة مباشرة ضد العدوان الإسرائيلي، وذهبت الى حدّ الدعوة إلى «تحرير فلسطين». بداية سمّت العدوان «حرب على غزة» وليس «حرب إسرائيل مع حماس» أو «حرب في غزة». وطالبت، في افتتاحيتها، بأن «تساق إسرائيل الى المحاكمة الدولية لأنها إن أفلتت من العقاب فهي سترتكب جرائمها مراراً وتكراراً». تلك الافتتاحية أشارت الى عدم تكافؤ ميزان القوى بين الطرفين، وانتقدت استخدام عبارة «سلسلة العنف» للإشارة الى ما يحصل في غزة، لتستبدلها بعبارة «سلسلة إفلات إسرائيل من العقاب».
وتزامناً مع افتتاحيتها، نشرت الصحيفة مقالاً يدعو الأميركيين الى الوقوف بوجه اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة ومعارضته، «لأن ذلك لم يعد انتحاراً سياسياً».