تستغلّ الصين الفراغ المتنامي للولايات المتحدة في المنطقة، لتعبّئ جانباً منه بنفسها، خصوصاً في الخليج، حيث يكبر الصدع في العلاقات بين السعودية والأميركيين، والذي تَعزَّز أخيراً على وقْع قرار «أوبك+» خفْض إنتاج النفط. ومع وصول الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى الرياض، حيث يشارك في ثلاث قمّم، وتتصدّر مائدة مباحثاته ملفّات شتى، سيحضر في مقدّمها النفط، وزيادة التعاون الاقتصادي، لا يُنتظر أن تجري مناقشة مسائل دفاعية، خصوصاً أن بكين ليست في وارد تولّي زمام أيّ دور أمني في منطقة الخليج، أو طرْح «وكالتها الدفاعية» كبديل من تلك الأميركية
وصل الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى الرياض، على وقع تنامي العلاقات بين البلدين، وفي وقتٍ بات فيه حلفاء الولايات المتحدة التاريخيون في المنطقة، على مسافة أقرب إلى الصين، في ظلّ مؤشرات تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط، لمصلحة تركيز الجهد العسكري والاقتصادي والدبلوماسي في اتجاه آسيا، وأوروبا. وعلى مائدة المباحثات المرتقبة بين الجانبين، ملفّات شتى، وخصوصاً أن الزيارة ستمتدّ على ثلاثة أيّام، وسيشارك فيها تشي، المنتشي بإعادة انتخابه أميناً عاماً لـ«الحزب الشيوعي الصيني» لمدة خمس سنوات، تمهيداً للتجديد له لفترة رئاسية ثالثة في آذار المقبل، في ثلاث قمم، ستجمعه الأولى إلى الملك السعودي سلمان، ووليّ عهده محمد، على أن تليها قمة صينية - خليجية يوم غد الجمعة، وأخرى صينية - عربية في الإطار نفسه، بمشاركة قادة خليجيين وعرب.
ومع أن الزيارة في ذاتها تعكس عمق الروابط الصينية - الخليجية، التي انحصرت، على مدى عقود، ضمن هامش ضيّق يمكن إدراجه تحت عنوان حاجة الصين، الناهضة صناعيّاً آنذاك، إلى مصادر الطاقة، قبل أن تتطوّر لتشمل مشاريع ضخمة في مجال البنى التحتية، والاتصالات، والتعاون العسكري، إلّا أن الرئيس الزائر يضع نصب عينيه مجموعة من الأهداف: أوّلها يحمل بعداً اقتصادياً خالصاً شديد الصلة بالاحتياجات النفطية للصين، حيث سَجّل حجم وارداتها من النفط السعودي حوالي 1.8 مليون برميل يومياً أواخر العام الماضي، إضافة إلى المصالح التجارية لبكين، الشريك التجاري الأكبر للرياض، بقيمة قاربت الـ 70 مليار دولار في عام 2020، وذلك في إطار سعي شي إلى إنجاح مبادرة «الحزام والطريق». وخلال الأعوام الأخيرة، سَجّلت الشركات الصينية نجاحاً في تثبيت حضورها في السوق السعودية، وخصوصاً في مجال السيارات، حيث بلغت حوالي 25% من تلك السوق خلال العام الماضي، وفق تقديرات رسمية سعودية. أمّا ثاني تلك الأهداف فيتعلّق برغبة الرئيس الصيني في توجيه «رسائل مشفّرة» إلى واشنطن، أولاً من باب توقيت الزيارة التي جاءت على وقع تباين سعودي - أميركي، عزّزه قرار «أوبك+» خفْض إنتاج النفط. ووفق مراقبين، يودّ شي أن يُفهِم الغرب أن نفوذ بلاده في الشرق الأوسط بشكل عام، وداخل بلدان الخليج بشكل خاص، بات أمراً واقعاً لا مفرّ منه. وفي هذا السياق، يشير الباحث في كلية راجارتنام للدراسات الدولية في سنغافورة، جيمس دورسي، إلى أن الرئيس الصيني «يرغب في انتهاز فرصة الخلاف السعودي - الأميركي عبر فتح حساب مع الولايات المتحدة، يُطلق من خلاله مواقف بصورة استعراضية في معرض هذا الخلاف». ويلمّح دورسي إلى أن شي يرمي إلى إثبات حضور بلاده القوي في الخليج، ولا سيما في السعودية، وذلك من خلال «إعادة غرس العلم (الصيني)» هناك.
يجزم محلّلون بأن بكين ليست في وارد تولّي زمام أيّ دور أمني في منطقة الخليج


وعن فرص نمو العلاقات الصينية - السعودية، يتّضح أن البلدين يقفان على أرضيّة مشتركة حيال عدد من القضايا، ولا سيما أنهما مدرجان في خانة الأنظمة السلطوية، وفق التصنيف الغربي. وفي خضمّ هذه العلاقة التبادلية من «الودّ السياسي»، يوفّر إحجام الصينيين عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، تحت شعار «حقوق الإنسان»، إمكانية لتغاضيهم عن سجلّ شركاء بكين الدوليّين في هذا المجال، على غرار ما يسجّله الواقع الحقوقي لدول الخليج، والذي تمظهر أخيراً في تقرير «المنظمة الأوروبية - السعودية لحقوق الإنسان» الذي أفاد بأن الرياض أصدرت أحكاماً بإعدام 15 معتقل رأي، بينهم 8 قاصرين، على نحو يجعل هذا الإحجام رافعة لعلاقاتهم بالسعوديين. وظهرت «العلامة التجارية» الأبرز لهذا الود الصيني، من خلال إطباق المسؤولين الصينيين الصمت حيال قضيّة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. في المقابل، تتجنّب الرياض تسليط الضوء، أو توجيه انتقادات من أيّ نوع إزاء ما يُشاع في شأن الممارسات القمعية لبكين بحقّ أقليّة الإيغور المسلمة في إقليم شينجيانغ، خلافاً لدول إسلامية أخرى مثل تركيا، وهو أمر تحبّذه القيادة الصينية. ولشرح الأمر، يرى الباحث في جامعة شينجيانغ للدراسات الدولية، ما شياولين، أنه «ليس لدى الصين، باعتبارها شريكاً تجارياً كبيراً (للسعودية)، أيّ مطالب ذات صلة بمسائل السيادة والأيديولوجيا، والقيم (حول حقوق الإنسان)».
وعن انعكاسات الزيارة على العلاقات السعودية - الأميركية، يجزم محلّلون بأن بكين ليست في وارد تولّي زمام أيّ دور أمني في منطقة الخليج، أو طرْح «وكالتها الدفاعية» بديلاً من تلك الأميركية، وخصوصاً أن بكين تتمتّع بعلاقات استراتيجية ممتازة مع إيران، الخصم الإقليمي للسعودية. من هذا المنطلق، يؤكد الباحث في «معهد هادسِن» للبحوث السياسية والاستراتيجية، محمد اليحيى، أن الاعتقاد بأن المملكة في صدد استبدال تحالفها الأمني والعسكري مع الولايات المتحدة بعلاقات أوثق مع الصين، «هو سيناريو مستبعد، وخيالي» إلى حدّ كبير. وفي هذا الإطار أيضاً، تلفت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن واقع العلاقات بين بكين والرياض، رهن إرادة الأخيرة، متسائلة: «كيف تتصوّر السعودية وجيرانها، النظام الدولي المقبل، وموقع الصين فيه؟». وإذ تقول إن الإجابة ستتضح مع الوقت، فهي تشير إلى أن المسؤولين الأميركيين «سيراقبون عن كثب ما إذا كانت زيارة الرئيس الصيني للرياض ستسفر عن اتفاقات نوعية في قطاعات حسّاسة، كالأمن والدفاع أو الطاقة النووية، لتقدير موقفهم منها».