رام الله | لم يفاجئ محمود عباس، في حديثه أول من أمس، أحداً. رئيس السلطة التي عادت في الآونة الأخيرة إلى تفعيل دورها في ملاحقة المقاومين في الضفة الغربية المحتلّة «على النحو المطلوب»، لم يجد من حلّ في مواجهة الفاشية الإسرائيلية الصاعدة سوى ما سمّاه «تعزيز صمود الشعب الفلسطيني»، والتعويل على موقف دولي مناهض لحكومة بنيامين نتنياهو، يبدو أنه لن يأتي. وإذ لا يبدو هذا الموقف غريباً على رأس السلطة التي باتت تجد في أيّ خطوة جدّية بعيدة من وعودها الممجوجة تهديداً لبقائها ودورها، فسيكون بإمكان الحكومة الإسرائيلية الجديدة الاطمئنان إلى أنها ستجد لها ظهيراً فلسطينياً في تنفيذ مخطّطات الاستيطان والقتل والتهجير، والتي تَظهر شهيّتها مفتوحة عليها
يسرّع بنيامين نتنياهو خطواته لتشكيل ائتلافه الحكومي، مسترضياً الأحزاب اليمينية التي ستتشكّل منها حكومته، بمنحها صلاحيات واسعة في ملفات الأمن والمالية والاستيطان، ستكون بمثابة بداية لعهد «دولة المستوطنين» الفاشية. ويأتي ذلك تتويجاً لانزياح المجتمع الإسرائيلي، خلال السنوات الماضية، نحو اليمين المتشدّد، والذي تُرجم بشكل عملي خلال انتخابات «الكنيست» الأخيرة. إلّا أن هذا المسار لم يدفع السلطة الفلسطينية إلى إجراء مراجعة ذاتية لسياساتها، أو تنفيذ قرار واحد من القرارات التي لوّحت بها بشأن علاقتها مع إسرائيل، فيما يبدو الآن أنها غير متعجّلة لبلورة خطّة للتعامل مع الحكومة الإسرائيلية المقبلة، على رغم اتّضاح أركان برنامجها وسياستها. ولم تَجد السلطة، على سبيل المثال، عقب اتفاق نتنياهو مع زعيم حزب «القوة اليهودية» الفاشي، إيتمار بن غفير، على تشريع البؤر الاستيطانية العشوائية، سوى مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على نتنياهو لعدم تنفيذ الاتفاق، بسبب تداعياته.
وتعيش السلطة، منذ سنوات، بلا عملية سياسية، لكنها في المقابل تلتزم بكلّ ما يُطلب منها، وتحديداً في المجال الأمني والتعاون مع إسرائيل، في الوقت الذي تفرض فيه الأخيرة مخطّطاتها من تهويد واستيطان، وتمارس القتل والنهب والاقتحامات، ما كرّس صورة الأولى كموظف إداري لدى دولة الاحتلال. وعلى الرغم من أنها كانت تلجأ دورياً إلى التلويح باتّخاذ قرارات احتجاجية للردّ على تلك السياسات، إلّا أن هذا التلويح ظلّ دائماً عقيماً وممجوجاً بلا نتائج، فيما لم تغادر صاحبتُه مربّع العمل السياسي والدبلوماسي، والتعويل على «المجتمع الدولي». وهكذا، فقد بقيت قراراتها حبراً على ورق، وعلى رأسها مخرجات «المجلس المركزي لمنظمة التحرير» في آذار 2015، لناحية إعادة تحديد العلاقة مع إسرائيل، ووقف «التنسيق الأمني»، وإنهاء العمل بكلّ الاتفاقيات.
وعلى ضوء تلك التجربة، فإن السياسة الفلسطينية لن يطرأ عليها أي تغيير، وهذا ما اتّضح في كلمة رئيس السلطة، محمود عباس، مساء الأحد، خلال افتتاح دورة «المجلس الثوري لحركة فتح»، حيث أعلن استمرار السلطة في «الانضمام إلى المنظمات الدولية، والتوجّه إلى الأمم المتحدة للحصول على العضوية الكاملة، ومطالبة الدول التي لم تعترف بفلسطين بالاعتراف بها، وحشد الدعم العربي والدولي للقضية الفلسطينية ومواجهة التحديات الراهنة». واعتبر عباس أن ما يجب القيام به في مواجهة الحكومة الإسرائيلية الجديدة هو «تدعيم صمود الشعب الذي هو الأساس في مواجهة هذه الفاشية التي نتوقع منها المزيد من الانتهاكات والعدوان والجرائم، والتي يجب أن نعمل جميعاً على مواجهتها وفضحها وإفشالها، بوحدتنا وصمود شعبنا، وتمسكنا بحقوقنا التي لن نحيد عنها مهما كانت الضغوط والتحديات»، رابطاً إتمام المصالحة بـ«اعتراف الفصائل كافة بمنظمة التحرير كممثّل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني والقبول بالشرعية الدولية». ويعترف الكثيرون من قادة السلطة و«منظمة التحرير» بفشل «مسار أوسلو»، إلا أن رام الله تبدو متمسّكة بما خلّفه ذلك المسار من اتفاقيات وعلاقات مع تل أبيب، أكثر من أيّ وقت مضى، وهي تستخدمه من حين إلى آخر كورقة تهديد، وإنْ كان من المستبعد أن تقْدم على أيّ خطوات من شأنها تهديده، بسبب حجم المصالح التي نمت عليه، وتشكّل فئة مستفيدة من الوضع القائم الذي أرساه، إضافة إلى عدم قدرة السلطة على أيّ خطوات من هذا النوع، وفق ما أظهره قرارها رفض تسلّم أموال المقاصّة لبضعة أشهر، قبل أن تعود عن خطوتها لاحقاً.
ستبقى السلطة تراوح مكانها، بلا خيارات جدّية لمواجهة حكومة إسرائيلية تبدو متحمّسة لتنفيذ مخطّطات الاستيطان والتهجير والقتل


اليوم، تتّخذ السلطة موقف المتفرّج إزاء ما تقوم به إسرائيل على الأرض، اللهم باستثناء بيانات الإدانة واستعطاف المجتمع الدولي. وفي هذا الإطار، فهي تُراهن على أيّ موقف دولي ناقد لحكومة نتنياهو، بما في ذلك موقف إدارة جو بايدن، التي يبدو أنها نجحت في بيع الوهم والوعود الفارغة للسلطة، سواء بفتح القنصلية الأميركية في القدس، أو إعادة فتح مقرّ «منظمة التحرير» في واشنطن، أو غيرهما. ولا يبدو أن إدارة بايدن تختلف كثيراً عن إدارة دونالد ترامب، إذ لا يوجد على جدول أعمالها طرح خطّة سياسية، وفق ما اعترف به وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، أخيراً، قائلاً إن «احتمالات حلّ الدولتين تبدو بعيدة، لكننا ملتزمون به، وكلّ ما يبعدنا عنه يضرّ بأمن إسرائيل على المدى الطويل». وهو الالتزام الذي تتعهّد به السلطة أيضاً، محافظةً بدورها على وتيرة عالية من «التنسيق الأمني» مع إسرائيل، وهذا ما اتّضح في الأسابيع الأخيرة، في ضوء تصاعد الجهود لإنهاء حالة المقاومة المسلّحة في الضفة الغربية، في ما ينبئ بأن السلطة ثابتة على هذه الاستراتيجية، ولن تحيد عنها.
وتُمنّي رام الله نفسها بنجاح الإدارة الأميركية في كبح جماح الحكومة المقبلة، بالاستناد إلى تأكيد بلينكن «(أننا) سندين دائماً أعمال الإرهاب أو العنف التي تستهدف المدنيين وسنحاسب من يقوم بها»، وتحذيره حكومة نتنياهو المقبلة من إقامة مستوطنات جديدة.
لكن لا يبدو أن إدارة بايدن مهتمّة بإحداث «اختراق» أو «إنجاز» في الأراضي الفلسطينية، وهي تريد لحكومة الاحتلال تنفيذ برامجها بهدوء ومن دون صخب قادة اليمين الجديد، إذ لطالما وفّرت الإدارات الأميركية المتعاقبة الغطاء السياسي والقانوني للاستيطان وعمليات القتل والتهويد، وبقيت السند الأهمّ لإسرائيل، لكنها تريد إبقاء شريان دقيق للحياة للسلطة الفلسطينية، والمحافظة على القليل من صورتها. ومن أجل ذلك، عقد السفير الأميركي في إسرائيل، توم نيدس، اجتماعاً مع نتنياهو، قال على إثره: «قضيت ساعات طويلة مع رئيس الوزراء المكلف، وأنا متأكد من أنه سيفعل ما هو ضروري حتى لا تتفاقم الأمور إلى أزمة مع الفلسطينيين»، مضيفاً: «سنعمل مع هذه الحكومة ونتأكد من بقاء الأمور هادئة، وسنتأكد من أن الفلسطينيين يمكنهم العيش بسلام».
بالنتيجة، بين رفض المقاومة المسلحة ومنعها، والاستمرار في «التنسيق الأمني»، والعجز عن تعميم المقاومة الشعبية وتحويلها إلى نهج في الضفة الغربية، والقصور أيضاً عن ممارسة أيّ ضغط على إسرائيل، وغياب أيّ أفق سياسي، والتخوّف من اتخاذ قرارات تمسّ العلاقة مع دولة الاحتلال، ستبقى السلطة تراوح مكانها، بلا خيارات جدّية لمواجهة حكومة إسرائيلية تبدو متحمّسة لتنفيذ أجندة حبلى بمخطّطات الاستيطان والتهجير والقتل.