جاء نصّ الاتفاق السياسي الموقّع أمس في السودان (بعد نحو عام من توقيع اتفاق مشابه بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء حينذاك عبدالله حمدوك، في تشرين الثاني 2021) بمثابة ترجمة حرفية لفشل القوى المدنية (ممثّلةً هذه المرّة في "قوى الحرية والتغيير - المجلس المركزي") والقيادة العسكرية، في حسم مسار دقيق وشفّاف للمرحلة الانتقالية، إذ إنه أقرّ تمديدها لمدّة عامَين آخرَين يتمّ بعدهما إجراء انتخابات عامّة في البلاد مطلع عام 2025، كما أنه أجّل حسم أغلب البنود التي نصّ عليها هو نفسه، لصالح عمليات وسياقات مستقبلية غير محدَّدة أيضاً، من قَبيل إقصاء الجيش عن ممارسة السياسة والأنشطة الاقتصادية، ودمج قوات "الدعم السريع" والحركات المسلّحة الأخرى (الموقِّعة على "اتفاق جوبا للسلام")، والعمل على تنفيذ "اتفاق جوبا" بعد "تقييمه وتقويمه"، وإطلاق عملية صناعة الدستور. ويتناقض هذا البند الأخير، بشكل واضح، مع ضرورة إرساء قاعدة شعبية لهذه العملية، وبند تكوين مجلس تشريعي معيّن يتولّى في الغالب الإشراف على صياغة الدستور. وسيكون من شأن ذلك التناقض توليد مزيد من الاستقطاب السياسي، وإثارة غضب العديد من التيارات السياسية ولا سيما الإسلامية، وكذا عدد لا يُستهان به من "القوى المدنية" نفسها، سواء "قوى الحرية والتغيير - الكتلة الديموقراطية" أو "لجان المقاومة" وغيرها.
قراءة في التسوية
أخذ عدد من المعنيّين بالحراك الشعبي في السودان، على "المجلس المركزي"، أنه لم يستشر جميع مكوّنات هذا الحراك في عملية التوصّل إلى "الاتفاق الإطاري"، وأنه جافى في ذلك القواعد الديموقراطية السليمة حتى الساعات الأخيرة من تلك العملية، والتي شهدت وضْع اللمسات النهائية على التسوية. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن هذه الساعات شهدت - بحسب مصادر سودانية - تعديلات مؤشّرة إلى اضطراب المفاوضات، وتداخُل التوصيات فيها بالمحاصصات وربّما الإملاءات. ومن بين المؤشّرات إلى هذا الاضطراب، إضافة بند خاص "بقضايا الاتفاق النهائي"، وشموله الالتزام بوضع الترتيبات المناسبة لاستقرار شرق السودان، بما "يحقّق السلام العادل والمشاركة في السلطة والثروة والتنمية ضمن الحقوق الدستورية لمواطني الإقليم"، وهو نصّ يبدو أنه جاء لمجرّد تهدئة التوتّر في الشرق، خصوصاً أنه تَشابه مع بنود أخرى في ترحيله إلى مرحلة لاحقة، من دون وجود آليات أو ضمانات.
دشّن «الاتفاق الإطاري» مرحلة جديدة من العمل السياسي ربّما ستتجاوز مدّتها العامين


واستُهلّ الاتفاق، الذي حسم توقيعه ظهر أمس جدلاً أثير في الساعات الأخيرة حول تأجيله، بالنصّ على"احترام إرادة الشعب في حكومة مدنية"، والعمل على وقف التدهور الاقتصادي "وفق منهج تنموي شامل"، وتعيين رئيس الوزراء عبر مفاوضات مستقلّة (بالأساس بين القوى المدنية الموقِّعة) على أن يكون رأس الدولة هو القائد الأعلى للقوّات المسلّحة. وبقدر كبير من الغموض، دعا إلى إطلاق "عملية شاملة لصياغة الدستور الجديد بإشراف مفوضية صياغة الدستور"، من دون أن يحدّد توقيت هذه العملية، وما إن كانت ستتمّ خلال المرحلة الانتقالية المقرّر تمديدها عامين "من تاريخ اختيار رئيس الوزراء"، أم بعدها (مطلع عام 2025 على أقلّ تقدير). كذلك، نصّ على تعيين الحكومات الإقليمية بالتشاور مع القوى الموقِّعة على "الإعلان الدستوري"، في تجاوز لمبدأ رئيس في الاتفاق نفسه متمثّل في حماية الديموقراطية في مناطق "الهامش والأطراف"، على اعتبار أن قوى شعبية في شرق السودان وعددٍ من الولايات في تلك المناطق (ولا سيما الكتلة الديموقراطية بزعامة حركتَي "العدل والمساواة" - جبريل إبراهيم، و"تحرير السودان" - مني آركو مناوي، التي عارضت بالفعل "التسوية الثنائية" بعد إعلانها، مؤكدة أنها "ليست طرفاً فيها) تُعارض هذا البند.

مستقبل الاتفاق
تتركّز الانتقادات الموجّهة إلى الاتفاق، على شموله أحزاباً وقوى سياسية تابعة لنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، من مثل "المؤتمر الشعبي"، كما وضمّه ميليشيات "الدعم السريع" إلى القوات المسلحة، بما يضفي شرعية على قوات شبه نظامية متَّهمة في الأصل بارتكاب جرائم قتل جماعي في إقليم دارفور، ويغضّ الطرف عن مساءلتها عن أصولها ومواردها الاقتصادية، وهو ما يبدو أنه تمّ بدفْع سعودي - إماراتي - إسرائيلي. كذلك، وعلى رغم الحديث عن محاكمة نظام البشير وتفكيك قواعده منذ عام 1989، فإن الاتفاق لم يتطرّق إلى انتهاكات حقوق الإنسان وعمليات القتل التي جرت منذ خلع الرئيس السابق، ما يؤشّر إلى نوع من التواطؤ لصالح المكوّن العسكري الحاكم راهناً.
في المقابل، دافع ياسر عرمان، رئيس "الحركة الشعبية" والناطق باسم "مركزية الحرية والتغيير"، في تصريحات مطوّلة صباح أمس، بأن "الاتفاق لا يتضمّن شراكة مع المكوّن العسكري، بل ينصّ على تشكيل سلطة مدنية كاملة"، لافتاً إلى وجود "مؤسّسة للسيادة مدنية، ومجلس وزراء مدني، ولجنة أمن ودفاع برئاسة رئيس وزراء مدني"، مضيفاً أن "القوات النظامية مكوّن استراتيجي من مكوّنات الدولة، (وأن) الشعب هو صاحب الكلمة". وقلّل من شأن "القوى الثورية" المناهضة للتسوية، ومنها "لجان المقاومة" التي اعتبر أنها لا تريد "التوقيع على أيّ اتفاق"، وطالبها بعدم ممارسة سياسة التخوين. وأعاد عرمان حديثاً مغلوطاً عن "الفلول الذين اختطفوا الدولة ويعتقدون أن القوات المسلّحة والقوات النظامية هي جناح مسلّح لهم"، في ما يُعدّ تضليلاً بشأن مسار العلاقات العسكرية المدنية بعد "ثورة ديسمبر".
تكشف هاتان الرؤيتان عن استقطاب سياسي حادّ واقعياً. وبعيداً عن أجواء الاحتفاء بـ"نهاية الحكم العسكري والانتقال المدني الكامل"، فإن الاتفاق أجّل حسم قضايا ملحّة إلى "مرحلة مقبلة" غير واضحة، ومن ذلك مسألة توحيد القوات النظامية وغير النظامية، والتي تمثّل ملفّاً معقّداً للغاية لم يشهد تقدّماً ملموساً منذ "اتفاق جوبا للسلام". أمّا معالجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، فجرى الحديث عنها في إطار رؤية بالغة التعميم، ومن ثمّ لا يمكن الحكم على مضمونها في ما تبقّى من "المرحلة الانتقالية". أيضاً، وسم التشويش البنود المتّصلة بتفكيك "نظام يونيو 1989"، والذي وُصف بأنه "اختطف الدولة ومؤسّساتها"؛ وعليه، فإن عملية التفكيك - حال جدّيتها - ستعني إطلاق آلية "مكارثية" بامتياز، تطاول فئات المعارضة الحالية والمستقبلية لمسار "الاتفاق الإطاري".

خلاصة
دشّن "الاتفاق الإطاري" مرحلة جديدة من العمل السياسي في السودان، ربّما ستتجاوز مدّتها العامين، وصولاً إلى هدف رئيس لـ"ثورة ديسمبر"، وهو "قيام نظام ديموقراطي حقيقي يعبّر عن خيارات الشعب السوداني"  لكن على رغم حالة التفاؤل، والأجواء الاحتفالية التي شارك فيها ممثّلو "الرباعية الدولية" و"الآلية الثلاثية" والاتحاد الأوروبي وبعض دول "الإيجاد"، ونجاح أولئك الرعاة في جعل التسوية شاملة قضايا متنوعة، فإن نصّ الاتفاق، بكلّ ما اعتراه من شوائب جرى تفنيدها آنفاً، يؤشّر إلى أنه صيغ على عجل، بدوافع سياسية خارجية على الأرجح، وأن عملية تطبيقه لن تخلو من اضطرابات وخلافات وربّما صراعات