قلّما برز الأب في الحالة الشعبية الفلسطينية، فمن ذا الذي يستطيع تخطّي الأمّ... القديسة التي تعضّ على جراحها وهي تقدّم فلذة كبدها راضية قانِعة، ثمّ تنسحب من بين جموع المشيّعين لتنزوي بحزنها وبكائها وحيدة، ثمّ تعود وتَظهر في كلّ مرّة يستشهد فيها شاب أو فتى، ضاحكةً مزغردةً وهي تزفّه، مُدهِشة الجميع بقوّة صبرها وعمق إيمانها؟ لكن لكلّ قاعدة استثناءات، ومن بين الاستثناءات: فتحي خازم! في البدء كان رعد خازم، الشابّ النحيل الذي أحال حياة «اليهود البيض» إلى جحيم، يوم اجتاز الجدار المشيّد لكي تبتسم تل أبيب على أنقاض الفلسطينيين وجراحهم، ووصل إلى قلْبها، مهشّماً فصلاً وجيزاً من الحياة الرغيدة التي ينعم بها أولئك الذين هَجّروا أهله قبل سبعة عقود، وجرفوا مخيّمه في جنين لمّا كان لا يزال طفلاً. وصل الفدائي يومها إلى «ديزنغوف»؛ حيث يخال المرء نفسه في أحد الشوارع الباريسية الفارهة لتَشابُه المستعمِرين البيض إلى حدّ التطابق. امتشق سلاحه، وأردى ثلاثة إسرائيليين قتلى، فيما أصاب 16 آخرين بجروح، تاركاً دولة الاحتلال كلّها في صدمة.بعد ساعات من عمليّته، استشهد رعد في اشتباك مسلّح مع جنود العدو. وفجأةً، ظَهر أبوه فتحي خازم، العقيد المتقاعد في صفوف الأمن الوطني الفلسطيني، والذي كان معروفاً بين أهله وجيرانه في مدينة جنين ومخيمها، قبل أن يصبح المطلوب والمُطارَد الرقم واحد، ويَدخل قلوب ملايين الناس في فلسطين وخارجها. في ذلك اليوم من نيسان، وقف الأب شامخاً صلباً قوياً أمام جموع غفيرة من الفلسطينيين الذين وصلوا إلى ساحة منزله المتواضع في المخيم لمواساته وعائلته باستشهاد نجله، فإذا به هو يلقي فيهم خطاباً حماسياً امتدّ على ساعة كاملة، مستشهِداً بآيات من القرآن، وحاشِداً مفاهيم «العزة والكرامة والموت في سبيل الله والوطن». في خطبته تلك، حدّد «أبو رعد» عنوان المرحلة: «شعبنا لا يبحث عن تسهيلات الاحتلال، بل عن حرية واستقلال وصلاة في المسجد الأقصى من دون خوف أو قلق. شعبنا لا يبحث عن تصريح إسرائيلي مغمَّس بالذلّ كي نأكل السمّ المغمَّس بالعار». أمّا عن جنين التي ستعود عنواناً للمقاومة والاشتباك من جديد، فقال إنها «والله لقلعة الأبطال، وقلعة النماريد، وقلعة الشجعان الذين لا يخافون الموت. مخيم جنين رأس الحربة للمقاومة الفلسطينية وسيستمرّ على هذا النحو كونه يحمل الأمانة وسيستمرّ في حملها. المخيم لا ينقلب ولا يتراجع على رغم سقوط الشهداء».
قبل يومَين، ألمّ المرض بجسد «أبي رعد»، إذ أصيب بارتفاع مفاجئ في السكّر، والتهاب رئوي حادّ


بعد أشهر، سيستشهد ابنه الثاني، عبد الرحمن، في اشتباك مع جنود الاحتلال الذين اقتحموا يومذاك مخيّم جنين، وحاصروا منزل العائلة، وخاضوا مواجهات استُشهد خلالها أيضاً ثلاثة من رفاق ولدَيه وأصيب 44 آخرون. هكذا، عاد الأب المُطارَد الذي رفض تسليم نفسه إلّا مقابل إعادة جثمان رعد المحتجَز في ثلاجات العدو مع جثامين مقاومين آخرين، ليقف مجدّداً بين المشيّعين، مُقبِّلاً رأس نجله الشهيد الثاني، حابساً دموعه وهو يرثوه: «يا فلذة كبدي، قاتلتَ في سبيل الله، واشتبكتَ مع عدوّ الله، عدوّ الدين، مُقبِلاً غير مدبِر... اللهم إنّي أُشهدك وأُشهد ملائكتك وحَمَلة عرشك أنني راضٍ عن ابني عبد الرحمن وارضَ عنه يا أَلله». الأب الذي كان أحد قادة الانتفاضة الأولى، وأصيب واعتُقل مرّات عديدة قبل أن يصبح عقيداً في أمن السلطة الفلسطينية ويتقاعد مبكراً منها، قرّر أن يكون سابقةً، ليس برفضه تسليم نفسه للعدو فقط، بل وأيضاً بمتابعته مسيرة نجلَيه، ومُضيّه على درب الشهادة الذي اختاره، وهو ما حوّله إلى قائد روحي للمقاومة، ولـ«كتيبة جنين» تحديداً كما يصفه الاحتلال.
مع اتّساع حالة المقاومة في شمال الضفة، وفشل عملية «كاسر الأمواج» الإسرائيلية، لم تَجد السلطة الفلسطينية - بما هي في بعض وظائفها أداة تنفيذية للاحتلال - بدّاً من الإجهاز على «الرأس»، أو أقلّه إقناعه بتسليم نفسه أو العمل على وقْف المدّ الجارف في جنين ونابلس وعموم الضفة. لكن تلك المحاولات الترغيبية المكشوفة لم تؤتِ أُكُلها، ولذلك، صعّد العدو ضرباته ضدّ مُقاومي المخيم وأحياء «دمشق الصغرى»، ليستشهد العشرات من «كتيبة جنين» و«عرين الأسود». لكن قبل يومَين، ألمّ المرض بجسد «أبي رعد»، إذ أصيب بارتفاع مفاجئ في السكّر، والتهاب رئوي حادّ، ما استدعى نقله إلى المستشفى. وطبقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن «اللواء نضال أبو دخان نَقل خازم بسيّارته إلى إتش كلينيك المملوكة لحسين الشيخ»، الأمر الذي أثار سلسلة من التساؤلات، أبرزها ما يلي: هل ما حصل لفتحي طبيعي أم أنه نتيجة «أمرٍ ما» تعرَّض له الرجل؟ وكيف لمطارَد في مِثل حالته يَصعب حتى تنقّله داخل مدينة جنين، أن يُنقل إلى رام الله التي يحتاج الوصول إليها ساعتين بالسيارة، والمرور على حواجز الاحتلال والمستوطَنات، من دون أن يستدعي ذلك تدخّلاً وتنسيقاً من أعلى المستويات ورؤساء الأجهزة الأمنية وصولاً إلى رئيس السلطة نفسه؟
إزاء تلك الأسئلة والشكوك، يَلفت أحد أفراد عائلة «أبي رعد»، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أنه «منذ فترة طويلة تحاول السلطة إقناع خازم بتسليم نفسه، بهدف إنهاء حالة المقاومة في المخيم والقضاء عليها»، مضيفاً أن الرجل «تعرّض لوعكة صحّية شديدة وانهيار جسدي»، وأن «أشخاصاً حوله كانوا يرعونه أصرّوا على إخراجه من المخيّم للعلاج»، من دون أن يستبعد أن تكون «السلطة قد استغلّت الموقف لتنفيذ خطّتها». فهل يعني ذلك أن «أبا رعد» سيُجبَر على البقاء في رام الله، لدى تماثُله للشفاء، ويُمنع من العودة إلى مخيم جنين؟ لمَ لا؟ فمطاردون كُثر كان مصيرهم مشابهاً!