الحسكة | دخلت العملية العسكرية التركية «المخلب السيف» التي أطلقتْها تركيا ضدّ «قوات سوريا الديموقراطية» أسبوعها الثاني، في وقت انطلقت فيه مفاوضات تركية مع كلّ من الجانبَين الروسي والأميركي، لضمان مُوافقتهما على انتقال العملية إلى مستوى الهجوم البرّي، ما يعني احتلال أنقرة مناطق جديدة في الشمال السوري. وانخفضت، خلال اليومَين الأخيرَين، حدّة الاستهدافات الجوّية لمواقع «قسد»، مع تركيز القصف المدفعي والصاروخي على امتداد مناطق السيطرة الكردية من المالكية في ريف الحسكة، حتى منبج في ريف حلب الشمالي الشرقي. والظاهر أن أنقرة تريد إفساح المجال لوساطات غير مباشرة مع «قسد»، تتيح لها فرْض شروط قاسية على الأخيرة، ومن ثمّ إثبات عدم جدّيتها في تطبيق الاتّفاقات السابقة بين تركيا وكلّ من روسيا والولايات المتحدة، والتي أوقفت بموجبها الأولى عملية «نبع السلام» في تشرين الأول 2019.وظهرت ملامح هذه الوساطات من خلال لقاء جَمع السفير الأميركي في أنقرة، جيف فليك، مع وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، للوقوف على نيات تركيا الفعلية من إطلاقها عمليتها الأخيرة. ووفق معلومات متقاطعة نشرتْها وسائل إعلام كردية وتركية، فإن الجانب التركي أبلغ الأميركيين مجموعة من الشروط مقابل العدول عن إطلاق هجوم برّي واسع. وتتضمّن تلك الشروط «انسحاب قسد إلى مسافة 30 كلم عن الحدود، بناءً على اتّفاقات سابقة مع الأميركيين والروس، وسحْب كامل عناصر حزب العمال الكردستاني من سوريا، وتسليم بعضهم للاستخبارات التركية، مع وضْع نقاط مراقبة مستقلّة للأتراك، أو مشتركة مع الأميركيين، لمنع نقْل أسلحة ثقيلة من الشمال السوري باتجاه حزب العمال في العراق، وتخصيص حصّة من واردات النفط لمناطق سيطرة الفصائل المسلّحة، أو الاستعاضة عن كلّ ما تَقدّم بتسليم كامل الحدود بعمق 30 كلم للجيش السوري».
في المقابل، نفت مصادر كردية مقرّبة من «قسد» تلقّي الأخيرة أيّ شروط تركية عبر الأميركيين، لافتة إلى أن «المؤشّرات الأوّلية تؤكد أن تركيا عازمة على تنفيذ عدوان جديد ضدّ الشمال السوري، وقسد اختارت المواجهة»، مستدركةً بأن «الأميركيين يسعون لدى الأتراك لإيقاف الهجوم، وقسد تنتظر ما ستَخرج به المساعي الأميركية من نتائج». ويأتي ذلك في وقت أشارت فيه معلومات أمنية إلى أن الأميركيين قاموا بتعطيل الرادارات في قاعدة سدّ الحسكة الغربي، قُبيل استهداف الطيران التركي مواقع لـ«قسد» على مقربة منهم. كما يجيء توازياً مع مواصلة الولايات المتحدة محاولتها إقناع حلفائها الأكراد بأنها ضدّ الهجوم الذي تنوي تركيا شنّه ضدّهم. وفي هذا الإطار، جدّد منسّق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط، بريت ماكغورك، والمبعوث الأعلى للخارجية الأميركية إلى سوريا، نيكولاس جرنجر، موقف بلادهما الرافض للعملية البرّية، وتشديدهما على ضرورة الحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
تعتقد دمشق أن الحلّ الوحيد لتجنيب المنطقة أيّ عدوان تركي جديد يتمثّل في تسليم الشريط الحدودي بعمق 30 كلم للجيش


إلّا أن المواقف الأميركية لم تتعدّ، إلى الآن، حدود الكلام فقط؛ إذ تؤكد المعطيات على الأرض عدم اتّخاذ الأميركيين أيّ خطوات عملية لثني الأتراك عن القيام بالعملية، على رغم إعلان القائد العام لـ«قسد»، مظلوم عبدي، أوّل من أمس، أن الإدارة الأميركية أخبرتْه عبر ماكغورك، «رفضها الهجوم التركي، وأنها تتواصل مع أنقرة لإيقافه». وتنحصر المخاوف الأميركية من التصعيد التركي، في الخشية من فقدان السيطرة على المخيّمات والسجون التي تحوي عناصر «داعش» وعوائلهم المحتجَزين لدى «قسد»، ما يهدّد بعودة نشاط التنظيم. ولذا، استغلّت «قسد» هذه المخاوف، من خلال تركيز إعلامها على وقوع قصف تركي طاول مخيم الهول، والترويج لوجود حالات عصيان داخل المخيّم لعدد من عوائل التنظيم، ومحاولات الأخيرة الاشتباك مع عناصر الحراسة للفرار، من دون وجود أيّ تأكيدات حول ذلك. وتُضاف إلى ما تَقدّم تصريحات لعبدي، تحدّث فيها عن «وجود معلومات استخبارية عن تحضيرات لشنّ هجمات لداعش تزامناً مع الهجوم التركي».
هكذا، تُكرّر «قسد» مواقفها السابقة التي تبنّتها خلال عمليتَي «غصن الزيتون» و«نبع السلام»، معوّلةً مجدداً على موقف أميركي لمنع تركيا من تنفيذ تهديداتها، متناسيةً ما وصفتْه هي نفسها بـ«الطعنة الأميركية»، بعد انسحاب واشنطن من تل أبيض ورأس العين، وإفساحها المجال أمام أنقرة لاحتلالهما. كذلك، يحاول القادة الأكراد، كالعادة، تحميل كلّ من دمشق وموسكو مسؤولية وقوع الهجوم التركي، من خلال اعتبار تأمين الحدود من مسؤولية الجيش السوري، والحديث عن أن المنطقة المهدَّدة تقع ضمن مناطق الوجود الروسي، من دون إبداء الاستعداد لتقديم أيّ تنازلات تتيح للجيش السوري بسط سيادته الكاملة على الحدود. من جهتها، تعتقد دمشق أن الحلّ الوحيد لتجنيب المنطقة أيّ عدوان تركي جديد يتمثّل في تسليم الشريط الحدودي بعمق 30 كلم للجيش، مع إدخال مؤسّسات الدولة إلى هناك، وسحْب قوات «الأسايش» و«الإدارة الذاتية»، لإبطال أيّ ذرائع يشهرها الأتراك في معرض تبرير اعتداءاتهم المتكرّرة على الحدود الشمالية للبلاد.