يشارك سكان قطاع غزة كل شعوب الأرض الشغفَ بكرة القدم، لكن، بخلاف سكان المعمورة، لا يستطيع الميسور مادياً، فضلاً عن المعسر منهم، المغامرة برحلة سفر إلى قطر لحضور مباريات دوري كأس العالم. «هامش الرفاهية هذا، أكبر من أحلامنا وإمكاناتنا»، يقول الشاب بلال سلمان، ويضيف في حديثه إلى «الأخبار»: «السفر في غزة خيار المضطر، للعلاج أو للتعليم أو لطلب الرزق، أمّا رفاهية النقاهة وملاحقة الهوايات والشغف بكرة القدم مثلاً، فإن أعباء الرحلة المادية والسفر المرهق تغني عنها». رغم ذلك، هي المرة الأولى التي يحضر فيها بضع عشرات من سكان القطاع فعالية كأس العالم، إذ سافر 28 شاباً متطوعاً للمشاركة في تنظيم فعاليات النسخة القطرية ضمن بعثة رياضية قامت عليها شبكة «أمواج» الرياضية المحلية، المموّلة قطرياً، بإشراف من المجلس الفلسطيني الأعلى من الشباب والرياضة. استقطبت الحكومة القطرية العشرات من الإعلاميين والمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي للمشاركة في تغطية المونديال، إلى جانب هؤلاء، حظي العشرات من المعلمين الذين استقدمتهم وزارة التعليم القطرية من القطاع للعمل في مدارسها، بفرصة تاريخية لحضور بعض مباريات كأس العالم.
أمّا السواد الأعظم من الغزيين، فقد تجهّزوا للموسم الكروي بتأمين أيسر الطرق التكنولوجية غير المكلفة مادياً، لمتابعة الحدث، وذلك بالتحايل على تشفير المباريات. يقول محمد أبو عمشة، وهو مواطن يسكن مدينة بيت حانون شمالي القطاع، إنه اضطر لشراء شاشة lcd smart تتوفر فيها خاصية الاتصال بالإنترنت، سيعرض عبرها المباريات من موقع على الإنترنت يبثها مجاناً، ليتابع ما يسمح به جدول الكهرباء من مباريات، ويواصل حديثه إلى «الأخبار»: «الكهرباء التي تنقطع نحو 15 ساعة يومياً ليست المشكلة الوحيدة، حيث يتقاطع جدول المباريات التي يُعقد بعضها ظهراً، وآخر عصراً، مع مواعيد العمل، لأن الدوام في الوظيفة الحكومية، ثم العمل في قطاف الزيتون، يحظيان بأولوية حياتية عن المباريات... لسنا من الأقوام التي تستطيع ترك العمل للتفرغ لهذا الموسم».
تحضر كرة القدم، فتغيب السياسة... تظهر القومية العربية على نحو مجرد من الأحكام الوطنية المسبَقة


أمّا الشاب هاني أبو القمصان، فهو، كما معظم رياضيي القطاع، استطاع تأمين مشاهدة جيدة للمباريات من خلال تركيب جهاز هوائي، استقبل فيه تردد بث قناة «أمواج» الرياضية المحلية. وكانت «أمواج»، التي يديرها عبد السلام هنية، وهو نجل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، قد حصلت على امتياز نقل المباريات عن شبكة «بي إن سبورت» بشكل مجاني لسكان القطاع.
في الشارع، تحضر أجواء المونديال بشكل لافت، ولا سيما أن اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة، التي لعبت دوراً إغاثياً وسياسياً ناعماً شديد التأثير طوال 15 عاماً، أعلنت عن توفير صالة مجانية لبث مباريات المونديال حتى نهايته، وأوضحت اللجنة، في بيان صحافي، أن أول هذه الأماكن في قطاع غزة هو صالة الشهيد سعد صايل الواقعة وسط المدينة «وستشهد عرض كلّ المباريات في المكان الذي تم تجهيزه بشكل كامل لاستقبال العديد من المشجعين والمهتمين بهذه البطولة الأولى من نوعها في الوطن العربي والتي تقام لأول مرة في دولة مسلمة».
في الشارع أيضاً، تبدو المقاهي أكثر المستفيدين من الحدث الرياضي، إذ تعرض طوال اليوم مباريات كأس العالم عبر شاشات كبيرة، وتزدحم، ولا سيما في ساعات المساء، بالمئات من الشغوفين بكرة القدم. يقول محمد ناصر، وهو صاحب كافي شوب في شمال غزة: «الموسم الحالي هو الأفضل، هو يعوض ضعف الحركة طوال العام... لا يدفع الزبائن ثمن تذكرة دخول، نحن نقدّم خدمة العرض مجاناً ونستفيد من ما يطلبونه من مشروبات ونرجيلة، وبأسعار مقبولة للجميع». غير أن تلك الامتيازات أيضاً، تبدو أكبر من طاقة شريحة كبيرة من المشجعين، يقول الشاب محمود الذي يعمل أجيراً بالمياومة في قطاع البناء، إن دفع 10 شواكل كحد أدنى لحضور المباريات بشكل يومي طوال شهر، يبدو أمراً معجزاً، خصوصاً أن المبلغ هو ثلث ما يتلقاه يومياً من عمله.

من العدوان على غزة والذي تزامن مع مونديال 2014

تحضر كرة القدم، فتغيب السياسة... تظهر القومية العربية على نحو مجرد من الأحكام الوطنية المسبقة على الشعوب والأنظمة، في مواقع التواصل الاجتماعي، تحليل دوري لمجريات المونديال، تهكّم على فرق «السيد الأوروبي الأبيض»، احتفاء بفوز السعودية، قفز عن كل «اللوثات السياسية» القطرية، يقول المختص النفسي عبدالله أحمد في توصيفه للمشهد: «السياسة تقتحم غرف النوم في غزة، الناس يبحثون دائماً عن مبررات النسيان، يبحثون عن نقاط الالتقاء لتشجيع أحد الفرق بشغف، بمعزل عن ما يُعتمل النفوس من غيظ وحنق على التطبيع»، يتابع حديثه إلى «الأخبار»: «هم تقصّدوا أن يشاهدوا التضامن الشعبي مع فلسطين في قطر، وغضوا الطرف عن استديوهات ومراسلي القنوات الإسرائيلية التي تعمل بكل أريحية، التفتوا إلى تعاطي الجماهير ومقاطعتها وسخريتها من إسرائيل، ولم يتنقدوا من سمح للوغو عبري بأن يتجول بشكل عادي بين العرب، هذه محاولة للنسيان، على الأقل آنياً».