عزيزي غسان... أرسل إليك هذه الرسالة، وأنا بأسوأ حال، أعرف أنه لا يجوز البدء بالرسائل هكذا عادةً، لكنك ستعذرني حال علمك لِمَ أقول هذا.
«أخوي» غسّان، اسمح لي أن أتعامل براحة معك. بحكم أشياء كثيرة، أظن أننا كنا لنصبح صديقين، لربما كنا سنختلف على أمورٍ كثيرة، لكنني أعرف أن بوصلتنا واحدة.
«أخوي». غزة تحترق؛ الصهاينة يمارسون أسوأ أنواع الإبادة عليها. لن نختلف عن أن «الهولوكوست» كذبة، لكنها في عقول كثيرين باتت حقيقة لأنهم يرون اليوم ماذا تعني الكلمة العبرانية. هم يمارسون هولوكوستاً بكل ما تحويه الكلمة من معنى. إنهم يقتلون المستقبل يا غسان؛ يقتلون الأطفال والنساء. يخشون رجال مستقبلنا، فيقتلونهم في مهدهم.

يخشون أمهاتنا القادمات فيقصفونهن. كيف يعيش الناس مع كل هذا الموت حولهم؟ حينما تحترق مدينةٌ فلسطينية بكل من فيها، ويسكت العالم. لا نلجأ إلا للبندقية، وأنا أعلم كم كانت تعني لك البندقية، وأعلم تماماً أنه لا خيار إلاها حينما نعلم بأنَّ هذا العالم لا يحترم إلا الأقوياء. ونحن لن نكون بعد اليوم: إلا أقوياء.
ستسألني كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ سأخبرك:
تقنياً ليس هناك من فلسطين كاملة، هناك إمارتان حالياً، إمارة غزة التي تحكمها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وسلطة الحكم الذاتي في رام الله التي تحكمها السلطة الفلسطينية (حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح). وباختصارٍ سريع، هذا جراء اتفاقِ سلامٍ صهيوني فلسطيني، ولن أدخل في تفاصيله الآن، لكن هذا ما أفضى إليه. وستستغرب أكثر أن هذا الاتفاق يخرقه الصهاينة كل ثانية ولا يتحرك الجانب الفلسطيني البتة بأي رد فعل. و«الأنكى» حينما يقتل أهل غزّة كل يومٍ في اعتداءات متكررة ولا يتحرك أحدٌ في الوطن العربي أو العالم.
ستقول لي: العالم لا يجيب إلا الأقوياء، ولا يحبّ سواهم. وسأؤكد لك الأمر، لكن ماذا عن اخوتنا العرب، ستسألني. عن المصريين مثلاً؟ المصريون قاموا بثورة على فرعونهم السابق، فأحضروا خزنة المعبد، بعد ذلك أحضروا فرعوناً جديداً، وفرعونهم هذا يحاصر غزّة من جديد. هل ستتفاجأ؟ وتدخن الروثمانس أكثر (روثمانس كنت تدخن، هل هناك روثمانس في الجنة؟)؟ لا تفعل انتظر حتى أنهي كل رسالتي. بالتأكيد تعرف بأن الإمارتين كلتيهما تشبهان إمارات الطوائف في الأندلس، تكرهان بعضهما أكثر من كراهيتهما للصهاينة. وهذا خلق انقساماً حاداً على كل الصعد؛ هل انتهى؟ لا لن يفعل! أعرف أعرف، ستسألني عن رفاقك في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. سأخبرك بالتالي، ولن أكون لطيفاً أو محابياً، بعد رحيل الحكيم جورج حبش والدكتور وديع حداد، لم تعد الجبهة كما هي. اهتزت بعنفٍ شديد، حاول الشهيد أبو علي مصطفى اكمال الدرب، لكن الصهاينة اغتالوه سريعاً وسجنوا الأمين العام الحالي أحمد سعدات. الجبهة تعيش حالياً بأقل الإمكانات وبلا أي دعمٍ من أحد، هل انتهت؟ لا. هل ستكمل الطريق؟ أنت أخبر مني بالأمر. ماذا إذا عن اليسار وحركاته؟ ماتوا. شعبنا كله؟ لايزال حياً ومنطلقاً كعادته. هل انتهت القضية الفلسطينية؟ لا، هي لم تبدأ لتنتهِ أصلاً. هل مازال الدرب شائكاً وصعباً ونسيره مع هذا؟ بالتأكيد. هل سنفنى جميعاً كفلسطينيين؟ سأجيبك بالعامية: «ما فشرت عينهم»! لكن قبل أن أرحل كنت أود أن أسألك شيئاً؛ ستسألني بالتأكيد بعد أن تسحب سيجارةً من علبة دخانك؛ ماذا أريد؟ أعرفك مباشراً وحاداً بعض الشيء. أريد التحدّث مع فارس فارس* قليلاً. فهلا تركتنا وحدنا؟
«أخوي» فارس...

ثقافتنا تموت
ببطء والحضارة التي تموت ثقافتها تموت هي الأخرى


بعد رحيلك، مات الأدب الفلسطيني. بالتأكيد سيصلبني كثيرون على هذا الكلام، لكنك تعلم مثلي سلوك الصلب الذي نعيشه في بلادنا العربية. «أخوي»، بعد رحيلك، استشهد ناجي العلي في لندن، لماذا؟ لأنهم ببساطة حاصروه ولاحقوه حتى اضطر للذهاب إلى بلاد «الفرنجة»، لاحقوه هناك أيضاً، وقتلوه. هل كانوا قتلتك؟ لا أعلم، ولكن أعلم أنهم هم أنفسهم من قتلوا الأدب الفلسطيني بكامله. أخوي فارس؛ بعد رحيلك، اكتشفنا فجأة أنه لا كتّاب/ روائيين/ شعراء/ رسامين فلسطينيين بقوا على قيد الحياة، قد تستغرب كلامي هذا، وأنت تعلم بأنه في وقتك كان هناك المئات، فماذا حل بهم؟ سأختصر الحكاية، رحلت المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982 وانتهى الأدب الفلسطيني ساعتها. كيف؟ لا اعرف. حتى أن آخر شاعر فلسطيني عرف الشهرة، لم يكن أكثر من شاعرٍ شاب شارك في برنامجٍ تلفزيوني للهواة فأصبح «نجماً»، هل كان يستحق الشهرة؟ لا أحد يعلم. هل هو شاعرٌ فعلاً؟ أيضاً لا أحد يعلم. هل هو محمود درويش الجديد كما يتسلى بعض الثوار «الكتبة» بتسميته؟ لا أظن! «أخوي» فارس، لن أطيل عليك، لكن سأقول لك بأن جميع من كتبت عنهم في مقالاتك باتوا نجوماً الآن، هذا شيءٌ حسن، لكن السيء هو أنه لم تخرج بعدهم أية مواهب لإكمال المسيرة. بصدق، ثقافتنا تموت ببطء. الحضارة التي تموت ثقافتها؛ تموت هي الأخرى. على أمل اللقاء قريباً.
* فارس فارس هو الاسم المستعار الذي استعمله غسان كنفاني لكتابة النقد الأدبي في جريدة الأنوار اللبنانية




يلجأ الصهاينة إلى اغتيال «عائلات» بأكملها في غزّة، ولم يكن استشهاد عائلة «الكوارع» كلها (أكثر من 15 شهيداً) حالة أولى أو فريدة من نوعها. ولكن الصدمة ليست هنا، الصدمة أن الصهاينة اعترفوا في ما بعد بأنهم كانوا يعلمون بأن العائلة بأكملها موجودة في المنزل إبان الضربة الجوية، وبأنهم فعلوا ذلك لأن أحد شباب العائلة ينتمي إلى سرايا القدس، وكانوا يريدون توجيه رسالة شديدة اللهجة له. يذكر أن العدوان الحالي على غزّة حتى اللحظة لا يقصف إلا أهدافاً مدنية. وبحكم أنّ غزّة أصلاً من أكثر المدن كثافةً في العالم، يأتي أغلب الشهداء من الأطفال والمسنين.