تُواصل الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية استنفارها في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين، في ظلّ انتشارٍ واسع لِما يصل إلى 25 كتيبة عسكرية، في كلّ نقطة احتكاك وصِلة وصْل ومعبر، من دون أن يبدو هذا كلّه كفيلاً بوضع حدّ للهجمات الفلسطينية التي باتت عنصراً ثابتاً في المشهد الميداني في الفترة الأخيرة. ومن أجل تبْيان حجم الجهود المبذولة في هذا الاستنفار، والتي تستهلك جزءاً كبيراً من قدرات العدو العمليّاتية، تَجدر الإشارة إلى أن ما يقوم به الاحتلال في الضفة لا يقتصر على خطّ تماس واحد يفصل الإسرائيليين عن الفلسطينيين - كما في حالة غزة مثلاً -، بل ثمّة أجزاء واسعة ومتعدّدة متداخلة ما بين البلدات والقرى الفلسطينية والمستوطنات الإسرائيلية، ما يعني وجود خطّ تماس دائري حول كلّ مستوطنة، يتوجّب على جيش الاحتلال إغلاقه بإحكام كي لا يتسرّب من خلاله الفلسطينيون، الذين باتوا يحوزون في الآونة الحديثة، إلى جانب إرادتهم تنفيذ العمليات، القدرة المادّية اللازمة لذلك. وإلى جانب تلك الخطوط، المتركّزة خصوصاً في شمال الضفة، يُضاف خطّ التماس التقليدي، المسمّى «الخطّ الأخضر»، والذي يفصل الضفة عن أراضي عام 1948، ويَلزم العدوَ تحصينُه أيضاً كي لا يتسرّب عبره الفلسطينيون. في الوقت نفسه، نشرت سلطات الاحتلال المئات من ضبّاط وعناصر الشرطة و«حرس الحدود» في مدينة القدس، بما يشمل البلدة القديمة ومواقع التصعيد المعتادة مع الفلسطينيين، بهدف تأمين وصول المستوطنين إلى الحرم القدسي خلال «الأعياد اليهودية».ووفقاً لمصدر رفيع في جيش العدو (يديعوت أحرونوت)، فإن الهدف من تلك الإجراءات هو «إمرار هذه الفترة المتوتّرة بسلام، إذ يكفي مرور مخرّب (فلسطيني) واحد كي ينهي كلّ ما نعمل عليه، لدينا الآلاف من الجنود في يهودا والسامرة (الضفة)، ونحن نعمل على استهلاك مواردنا في الدفاع» ضدّ الهجمات المحتمَلة للفلسطينيين. على أن التقديرات السائدة في إسرائيل تشير إلى إمكانية انفجار الوضع في أيّ لحظة، وبلوغه مرحلة انتفاضة من نوع جديد، لم تعتدْها دولة الاحتلال سابقاً، خصوصاً في ظلّ تعاظُم الحافزية الفلسطينية لشنّ العمليات، وتوافُر قدرة تسليحية معتدّ بها في مدن الضفة وبلداتها، فضلاً عن تحوُّل عدد لا يُستهان به من عناصر «فتح» وأجهزة الأمن الفلسطينية، إلى التماهي مع مقاتلي «الجهاد الإسلامي» و«حماس» في أكثر من بؤرة توتّر، وتحديداً في شمال الضفة. والمفارقة أن الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على المناطق الفلسطينية، والمتمثّلة في عمليات القتل والاعتقال شبه اليومية، لا تفعل إلّا المزيد من تسعير الهجمات، وهو ما دفع سلطات الاحتلال أخيراً إلى إعادة الاعتماد على السلطة الفلسطينية، بهدف القيام عنها بمهامّ ملاحقة المقاومين، من دون أن تُخاطر هي بوقوع خسائر بشرية في صفوفها. وفي هذا الإطار، وفي ما يبدو محاولة لردع الفلسطنيّين وطمْأنة الإسرائيليين في الوقت نفسه، حذّر مسؤول عسكري إسرائيلي رفيع من أن «الواقع الآن حسّاس ومعقّد للغاية، وهناك خطط مطروحة على الطاولة تتراوح بين استمرار النشاط الحالي وإحباطات موضعية، وبين عملية عسكرية واسعة النطاق كما حدث عام 2002، أي عملية سور واقٍ ثانية». واعتبر المسؤول أنه «على رغم كلّ العمليات التي تحدُث، إلّا أنّنا لسنا في عوالم الانتفاضة وفقدان السيطرة الميدانية، مع إمكانية أن يَحدث ذلك».
قرّرت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، عشيّة المناسبات اليهودية، اعتماد تكتيكات ميدانية مختلفة


وكانت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية قرّرت، عشيّة المناسبات اليهودية، اعتماد تكتيكات ميدانية مختلفة، مِن مِثل التقليل من المبادرات الهجومية (الاعتداءات) داخل القرى والبلدات الفلسطينية، ومضاعفة الاعتماد على الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، في أعقاب التوصّل إلى تفاهم مع الأخيرة على إعادة «التنسيق» إلى سابق عهده. وبحسب الإعلام العبري، فقد شدّد مسؤولو السلطة على ضرورة «تقليل الأنشطة العملانية للجيش الإسرائيلي داخل نابلس وجنين ولو قليلاً، كي يتمكّنوا من العودة إلى العمل بأنفسهم بزخم أكبر». ونقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مصدر إسرائيلي مطّلع، في هذا الإطار، أن «تبادل إطلاق النار بين مسلّحين فلسطينيين وقوات الأمن الفلسطينية، بعد أن اعتقلت الأخيرة الناشط في حركة حماس، مصعب اشتية، وستّة من سكان نابلس، إثر قيامهم بالتحريض» ضدّ الاحتلال، يشير إلى «إمكانية العمل، والى الدور الذي باتت تضطلع به السلطة في شمال الضفة، حيث أثار اعتقال اشتية موجة إخلال بالنظام والمطالبة بإطلاق سراحه، لكن المقاومة التي واجهتْها السلطة في نابلس ليست كبيرة، فهم مجرّد عشرات من الشبان المُحرَّضين».
إزاء ذلك، تُطرح أسئلة كثيرة من قَبيل ما إذا كان خليط انكفاء الاحتلال عن العمل المباشر، وإعادة توكيل السلطة ملاحقة المطلوبين والمطارَدين، وكذلك الحصار شبه المطلَق للمناطق الفلسطينية، سيؤمّن للعدو ما يصبو إليه؟ وهل اقتصار «المعالجة» على الجراحة الموضعية للعوارض الناجمة أصلاً عن وجود الاحتلال، تكفي لمنع نموّ هذه العوارض؟ وإلى أيّ مدى يستطيع جيش العدو استهلاك نفسه في إجراءات حمائية دائمة تستنزف قدراته وتركيزه، في وقت تتكاثر فيه التهديدات الماثلة أمامه في جبهات أكثر سخونة وخطورة؟ إلى الآن، يطغى اللايقين على المشهد المرتبط بـ«الأعياد اليهودية» الأكثر حساسية بالنسبة لإسرائيل، وكذلك باليوم الذي يليها، لتبدو دولة الاحتلال وكأنها لا تزال تدور في حلقة مفرغة، عنوانها تناسل العمليات الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية بدفْع من بعضهما البعض، وخطورة إضعاف السلطة وانعكاساته على قدرتها على أداء مهامها، فيما إضعافها نفسه بات مطلباً جماهيرياً عبرياً ربطاً بالانزياح المتزايد إلى اليمينيّة.