شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا ليسوا كبقية الشهداء. هم وذكراهم حالة خاصة جداً في التاريخ الإنساني المعاصر.دخلتُ المخيم، عام 1982، كمتطوع في الدفاع المدني، كان مدمراً، حجراً وبشراً، وبعد أيام ضمن فريق من الشباب، وكانت لي أصعب وأقسى تجربة في حياتي أمام «التوحش البشري» الذي يستحيل تخيّله، وما يمكن أن يترك خلفه من ضحايا، جعلتني أصاب بصدمة بقيت تردداتها في وجداني ومخيلتي حتى كتابة هذه السطور غير الكافية للتعبير عمّا حصل، وما شاهدته واختبرته.
(أ ف ب )

المجزرة الرهيبة، جعلتني أحرد من الله، وكدت أن أرسب في امتحانات البكالوريا لاحقاً، بسبب مادة الفلسفة. كيف أدرس مادة، ما ورائية تنظيرية، وأنا خارج من مجزرة حقيقة، طاولت بشراً من لحم ودم، أبرياء لم يكن لهم لا حول ولا قوة. مسنون ونساء وأطفال وحبالى، تم سوقهم ببساطة إلى الموت مراراً، وماتوا عشرات المرات. فقط لأنهم فلسطينيون أو لبنانيون مع الفلسطينيين. نعم! هل يموت الإنسان عشرات المرات؟ حصل ذلك في مجزرة صبرا وشاتيلا.
قرأت عن المجزرة بالتفصيل في الكتب بعد سنوات، بخاصة كتاب «صبرا وشاتيلا أيلول 1982» للدكتورة بيان نويهض الحوت، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. لكن صدمتي مع التجربة الإنسانية المهولة على الأرض، في ذلك «الأيلول الأسود» الذي كان مبللاً بدماء الأبرياء العزل، جعلتني أفكر للمرة الأولى، وأنا شاب في 18 من العمر، وعلى مقاعد الدراسة، وصاحب تفكير شاعري مثالي، أن هذا المخلوق الذي اسمه الإنسان، هو فعلاً قادر على أن يتحول إلى وحش كاسر —ربما ديناصور أو أكثر— فيقتل من دون رحمة أو تردد، الأبرياء العزل من أطفال ونساء وعجز، بأنواع الأسلحة النارية كافة والسلاح الأبيض من بلطات وحربات، كما بمقدوره أن يذبح بالسكين أمام أعين الأهل والأقارب انتقاماً لاغتيال بشير قبل يومين (على الرغم من أن خطة اقتحام المخيم، قد اتُفق عليها مع شارون قبل أيام في الاجتماع المشهور في بكفيا حيث التهم شارون الشره، صينية كبة كاملة من «ديّات» ربة البيت) وفي المجزرة استشهد الكثير من اللبنانيين المقيمين في المخيم.
آه يا شهداء صبرا وشاتيلا، يا أهل الأخدود، أبكيكم بحسرة كلما أستعيد ذكراكم. لكم كل أذان المساجد وقرع أجراس الكنائس والتفجع العاشورائي. لكم كل الحزن والدمع والأسى. لم أعرفكم إلا جثثاً منفوخة متفحمة مرمية ومكدسة في أزقة المخيم. أستعين بكم اليوم وأبداً. كلما صعبت علي الحياة وكثرت التحديات. يا قديسي هذا الزمن. أيها الضحايا الأبرياء العزل. سامحونا. أستعيدكم كي أستنجد بكم، كي أتعلم من صبركم، كي أكسب شيئاً من قوتكم، يا من واجهتم الموت وجلاديكم بعيون صابرة، وبتسليم بالقدر مراراً وتكراراً. يا من رأيتم أهلكم يذبحون أمام عيونكم، ثم قتلتم أيضاً، على أيدي وحوش حاقدة خلت من كل رحمة و انتماء إنساني. فكان عذابكم وقهركم، ليس بعده أو قبله عذاب. ولن تكفي كل أبجديات ولغات العالم للتعبير عن مأساتكم التي ستبقى عاراً على جبين العدو الإسرائيلي، وعلى من ارتكب المجزرة، ولم يعترف حتى اليوم ولم يعلن الندامة على الأقل!
كنّا ننتشل جثة امرأة مطمورة، وإذ في يدها هوية لبنانية. كانت من آل المقداد. المسكينة اعتقدت أن هويتها سوف تنجيها من الذبح


قبل دخولنا المخيم أول مرة، قال لنا المسؤول: «لا تتناولوا الطعام... نحن ذاهبون إلى صبرا وشاتيلا!» صعدنا إلى سيارة الإسعاف، ولدى وصولنا إلى المدخل الشمالي، دخلت أنفي رائحة غريبة قوية ونتنة: كانت رائحة الموت الحقيقي. لم تنفع الكمامات التي أمّنها لنا الصليب الأحمر الدولي. فالجثث المتعفنة والمنتفخة، والتي يأكلها الدود، تُصدر رائحة قوية عند تحريكها. هذا كان الدرس الأوّل لنا والصدمة الأولى. فلكل معجب أو معجبة بالعطور الباريسية أقول: «لا تتعبوا أنفسكم، ولا تبذروا أموالكم، رائحة الموت هي الأقوى».
عذراً على جلافتي وصراحتي الفظة. عدا عن صدمة الواقع، والتوحش البشري وبشاعة العنف الأعمى المتولد من التعصب والكره والتربية على كره ورفض الآخر والعنصرية، اكتشفت في مجزرة صبرا وشاتيلا، أن الدود يبدأ باستهلاك عيون الضحية ثم الأمعاء. وأن الجثث المدفونة تحت التراب تتحلل بسرعة فيصعب سحبها، وقد ينفصل جزء من الجسد عن الآخر. كنا ننتشل جثة امرأة مطمورة، وإذ في يدها هوية لبنانية. كانت من آل المقداد. المسكينة اعتقدت أن هويتها سوف تنجيها من الذبح.
مشاهدات كثيرة وفظاعات علقت في مخيلتي أذكر منها: غرفة في المخيم، كان الطعام لا يزال موضوعاً على الطاولة وفي الزاوية شجرة ميلاد، مجموعة جثث مكومة قرب حائط يستهلكها الدود في حر أيلول، جثث متعفنة في بركة السباحة في المدينة الرياضية ومقتولة بالفؤوس (كان ذلك واضحاً من الفتحات في رؤوس الشهداء).
مع الأيام اعتدت أكثر على الرائحة التي بقيت في ملابسي لدى عودتي إلى البيت. كنا نرتدي قفازات نايلون طبية. مع الوقت تحولنا إلى ما يشبه جماعة دفن الموتى. نضع جثة الشهيد أو الشهيدة على الحمالة، وننطلق إلى حيث الحفرة الكبيرة التي أحدثها صاروخ طيران حربي إسرائيلي. كنا ندسّ الجثث هناك ونضع الكلس عليها. ويأتي الأهالي للتعرف إلى أقاربهم. في آخر النهار تبقى أشلاء أو بقايا الجثث التي يصعب التعرف إليها. فننزلها في الحفرة (هي اليوم تقع في مقبرة شهداء المجزرة).
الجيش الإسرائيلي هو من أمّن وموّل وسلح وساعد المهاجمين والمجرمين في دخول المخيم، وممارسة القتل المجاني لمدة ثلاثة أيام ونصف. هم من كانوا يحاصرون المخيم من كل الجهات، وهم من استمروا في قصفه وهم من أمّن الإضاءة الليلية للقتلة.
«كبير زغير مقمط بالسرير... هاي بلطت الدامور»، عبارات وشتائم قيلت للناس. كثر من الفتيات اللواتي تعرضن للاغتصاب فقدن صوابهن، ورحن يخبروننا بشكل هستيري ونحن نعمل بصمت.
كمتطوع في الدفاع المدني خلال اجتياح بيروت في حزيران 1982، أتمنى أن يكرم شهداء هذه المجزرة الرهيبة، بأن تُفتح المدافن مباشرة على الطريق العام (هي حتى اليوم مخفية خلفها بسطات البالات والأحذية القديمة! وغير مرئية للمارة من الخارج).
هي عادة سيئة عندنا... «أن ندفن شهداءنا مرتين!».
* كاتب وروائي لبناني