بعد مرور أربعين عاماً على ارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا، في 16 أيلول 1982، لم ينفذ الوقت بعد لمحاسبة القاتل، فالضحية في هذا المقام تسير منذ نكبتها على هذا الدرب، وهي التي عايشت المذابح طوال عقود. أسئلة كثيرة ما زالت المذبحة تطرحها على الجميع، كيف استطاع الجناة الإفلات من العقاب حتى الآن؟ فالجريمة المرتكبة واضحة وضوح الشمس كما الجاني، وإن اختلف الرواة على أعداد الضحايا من الفلسطينيين واللبنانيين الذين سقطوا في هذه المذبحة، فإن الحقيقة التاريخية، كما الناجين منها، يقولون إن جماعات مسلحة تنتمي لميليشيات حزب الكتائب اللبنانية، هي التي نفذت المذبحة، بدعم وغطاء إسرائيلي ميداني ولوجستي، بغية إحداث صدمة وترويع للكل الفلسطيني في الداخل والشتات، فيما جزئية الثأر لمقتل بشير الجميل، يبقى الهدف منها حشد المهووسين، وتحضيرهم لهذا الفعل الدامي والإجرامي، عبر استخدام الأسلحة البدائية ضد أناس مدنيين عزل.
لبنان بين خيارين
أيام قليلة على دخول قوات الاحتلال الإسرائيلي للعاصمة بيروت، المذبحة ارتكبت، وهي التي لم تعد على عجل، فهي جزء لا يتجزأ من العقيدة الصهيونية، التي ترى بضرورة حدوث المذبحة، بهدف إخضاع الأعداء، فيما السيناريو السياسي المعد مسبقاً، يقتضي جر لبنان للحلف الإسرائيلي، وكانت الأحزاب اللبنانية المسيحية منخرطة في هذا الحلف، على أمل استعادة أمجادها التاريخية «المفترضة». فيما منظمة التحرير كانت قد غادرت بيروت، تاركة أهلها في المخيمات فريسة للذئاب البشرية، بضمانات أميركية «معهودة» لعدم المس بهم، وسقطت تلك الوعود مع أول اختبار، فوقعت المذبحة.
أيام قليلة بعد المذبحة، كانت كفيلة بانطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، التي ضمت في ذلك الوقت خليطاً من القوى والأحزاب والحركات اللبنانية. انطلاقة اكتوى بنيرانها المحتل الإسرائيلي، ليغادر بيروت على وقع الرصاص، منكفئاً، حتى غادر لبنان كله، بعد سنوات. هذه الانطلاقة أكدت أن خيار المقاومة كمشروع نهضوي متجذر في ثقافة الشعب اللبناني، خيار ما زال حاضراً إلى اليوم، بل أثبتت الوقائع أن يده هي الأعلى.

أغيار قتلوا أغياراً
جوهر هذه العبارة التي نطق بها رئيس وزراء الاحتلال في ذلك الوقت مناحيم بيغن، تلخّص ما جرى للفلسطينيين واللبنانيين وبقية الضحايا في صبرا وشاتيلا. قال أمام لجنة «كاهان» التي شكلتها إسرائيل للتحقيق في المذبحة «أغيار قتلوا أغياراً»، إجابة على سؤال عن حجم المسؤولية التي تتحملها حكومته، فحاول التنصل بالإجابة التي تلخّص موقفه من غير اليهود. كشفت الإجابة أيضاً، بعمق، أن الحلفاء المفترضين من الجانب اللبناني، مهما كانت مرتبتهم وموقعهم ووظيفتهم في هذا الحلف فلن تعلوا، عن كونهم «غويم» ينفذون أوامر سيدهم الإسرائيلي بارتكاب المذبحة، كما يطلب منهم.

أربعون عاماً في تجهيل القاتل والضحية
بعد مرور كل هذا الوقت على وقوع المذبحة، التي لم يحقق بها لا القضاء المحلي اللبناني، ولا القضاء الدولي كما يجب، ينظر إلى الأمر بأن قراراً دولياً، يهدف إلى طمس معالم الجريمة، والتعامل معها على أنها من مخلفات الحروب التي وقعت في القرون الوسطى. ويعني هذا أيضاً أن الجاني محمي، وأن الضحية مرشحة دوماً لمذبحة قادمة، فيما لو بقيت مطالبته بحقوقه الوطنية سارية، والتجهيل لا يعني بالضرورة الإنكار، فالعالم يعلم بحقيقة المذبحة، القتلة، والضحايا، والأهداف، والسياق العام والخاص الذي حدثت فيه، لكنه يغمض عينيه عن كل هذا، لأنه لا يريد للجاني أن يساق ويوضع في قفص المحاكمة، فالجاني الفعلي في هذه الواقعة محمي دولياً من قبل، وحتى هذا الوقت من المساءلة والمحاكمة.
بعد أربعين عاماً ما زال مخيم شاتيلا قائماً هو وجواره، مزدحماً بالناس والحكايات التي تروي سيرة المذبحة، كما تروي سيرة الحياة


المذبحة في الوجدان الفلسطيني
من دون شك، تركت مذبحة صبرا وشاتيلا، جرحاً عميقاً في الوجدان الفلسطيني، ندوباً لن تزول، فالحدث قد جاء في سياق تاريخي، عبّرت عنه هزيمة الثورة الفلسطينية، وانكفاءها عن آخر نقطة جغرافية مرتبطة بحدود فلسطين، والحدث أيضاً ذكّر الفلسطيني بأهوال المذابح التي تعرّض لها أيام النكبة، وفتح الباب أمامه ليحدد خياراته، إمّا بالاستمرار بعزف نشيده الوطني، وبهذا يدفع الثمن مجدداً ومجدداً، أو ينسى ويذهب في غياهب الشتات. اختار الفلسطيني، الخيار الأوّل، لأنه خياره الأصيل، وكل الشواهد التاريخية بعد المذبحة، أثبتت أن الفلسطيني مضى نحو هذا الخيار، مع كل هذا الألم والدم الذي أريق على حدود الوطن، كما في مدنه وقراه ومخيماته. بعد سنوات قليلة، كان الفلسطيني يؤكد خياره بمواصلة الدفاع عن حقوقه، فأشعل انتفاضة الحجارة التي نقلت الصراع إلى مربعه الأول، داخل حدود الوطن، ولا تزال تداعياتها وأمواجها ومدها حتى هذا الوقت ماثلة للعيان مع شقيقتها الثانية.

الذكرى العبرة
إن إحياء الذكرى، لا يقتصر فقط على إحياء المراسم، فالهدف منها، الإبقاء على الذاكرة متقدة، فمن خلالها تتضح صورة الأعداء والأصدقاء على حد سواء، الأعداء الذين لا يمتلكون في جعبتهم سوى القتل والتدمير وارتكاب المجازر المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني، وإنكارهم لأبسط الحقوق الإنسانية للفلسطينيين، لاعتقادهم أن الإنكار هو الوحيد القادر على استمرارهم وبقائهم، عبر نفي الآخر الفلسطيني، نفياً مادياً ومعنوياً. أمّا الأصدقاء المناصرون وإن غلبوا، فإن مواقفهم المبدئية تجاه تلك الحقوق يمثل حقيقتهم الإنسانية، التي تتجاوز كل الحدود.
أمّا العبرة الكبرى التي يمكن استخلاصها من المذبحة، هي بعدم النسيان، والتذكر دوماً أن مسيرة الحرية تقتضي المحافظة على إنسانية الضحية، وعدم السير على خطى المحتل وأعوانه، وربما هذا السير المضني هو صمام الأمان الذي أمد القضية الفلسطينية وشعبها وأنصارها في كل بقاع الأرض، بالعزيمة ومواصلة النضال من أجل تلك الحقوق.

صبرا وشاتيلا تعود
بعد أربعين عاماً ما زال مخيم شاتيلا قائماً هو وجواره، مزدحماً بالناس والحكايات التي تروي سيرة المذبحة، كما تروي سيرة الحياة، التي أراد منها القاتل، المعدّ والمنفذ، إفراغها من كل معنى، فالحياة في شاتيلا أقوى من الموت. القتلة إلى قبورهم، وفلسطين باقية.