غزة | في إطار سعْيها لمعالجة مشكلة العجز المتنامي في موازنتها، وإقناع «المجتمع الدولي» ببدئها بتطبيق سلسلة «إصلاحات» هيكلية، تتّجه السلطة الفلسطينية نحو ارتكاب ما بات يُسمّى بـ«مجزرة التقاعد»، عبر فرض التقاعد الاختياري - لفترة محدودة - ومن ثمّ الإجباري على آلاف الموظّفين العاملين في إطار مؤسّساتها. على أن هذا الإجراء لن يجري تطبيقه على موظّفي غزة والضفة الغربية على السواء، بل سيكون للعاملين الحكوميين في القطاع النصيب الأكبر منه، بوصْفهم، من الأساس، « يَفلحون في غير أرضهم، أو يخدمون جهة معادية»، وفق النظرة التي تتطلّع بها السلطة إليهم
لم يستطع الموظّف الحكومي، رياض أبو فؤاد، حتى اللحظة، حسْم قراره بقبول عرض التقاعد الاختياري الذي أعلنت الحكومة الفلسطينية في رام الله، عزمها تطبيقه خلال الفترة المقبلة. أبو فؤاد، الذي يعمل معلّماً في إحدى مدارس غزة، شغل الوظيفة الحكومية منذ منتصف التسعينيات، وبينما كان ينتظر وصوله السنّ القانونية لإنهائه الخدمة (60 عاماً)، فوجئ بقرار السلطة إحالته إلى جانب الآلاف من أمثاله إلى التقاعد، اختيارياً حتى نهاية العام الجاري، أو قسرياً في مطلع العام المقبل. يقول الرجل الخمسيني، لـ«الأخبار»: «أنا وزملائي أمام مفترق طرق، فقد أُجبرنا في عام 2017 على التقاعد المالي الذي أتى على 50% من قيمة رواتبنا، بينما لم تطرح الحكومة حتى اليوم تفاصيل قرارها الجديد»، مضيفاً أن «سنوات خدمتي الـ27 تُوفّر لي راتباً تقاعدياً جيّداً في الوضع الطبيعي، تتجاوز قيمته الـ80%، إلى جانب مكافأة نهاية الخدمة، أمّا ما هو مطروح اليوم، فلن يتخطّى الـ65% من قيمة استحقاقي في أفضل الأحوال». ويتابع الرجل الذي يعيل عائلة مكوَّنة من 9 أفراد: «كلّ الخطط التي رسمناها في فترة ما بعد التقاعد تبخّرت، لديّ 5 أبناء بحاجة إلى تعليم وزواج (...) لا شيء يسير في هذه البلاد كما هو مخطَّط له».
وكانت الحكومة الفلسطينية أعلنت، مطلع شهر آب الماضي، اتّخاذ سلسلة إجراءات لزيادة قيمة الإيرادات العامّة، وخفْض فاتورة رواتب الموظفين العموميين البالغة قيمتها نحو 300 مليون دولار. ومن المقرّر أن تعتمد «خطّة الإصلاح الاستراتيجية» التي تدّعي وزارة المالية في رام الله، أن المانحين الأوروبيين يلحّون على السلطة في تطبيقها، على تحويل أكبر عدد ممكن من الموظفين الحكوميين في غزة والضفة، إلى «صندوق التقاعد»، التابع لـ«هيئة التقاعد والمعاشات» (مؤسّسة حكومية تتمتّع باستقلالية مالية تقوم على اقتطاع جزء من رواتب الموظفين أثناء فترة خدمتهم)؛ إذ سيوفّر ذلك 30% من نفقات الموازنة العامة حتى نهاية العام الجاري، على أن تسهم الخطوات ذاتها في توفير 50% خلال السنوات المقبلة، سيجري استغلالها في تطوير الاستثمار والاقتصاد. ووفقاً لما أعلنه وزير المالية، شكري بشارة، فإن «إصلاح» فاتورة الرواتب سيتمّ على مرحلتَين: الأولى، تخفيض فاتورة الأجور إلى 70 في المئة من صافي الإيرادات بحلول نهاية عام 2022 من خلال التقاعد الاختياري؛ والثانية، تخفيضها إلى 50 في المئة اعتباراً من الربع الأوّل من العام المقبل، عبر إجبار كلّ مَن «ليس له عمل على التقاعد الإلزامي»، في إشارة خصوصاً إلى الموظفين العسكريين في القطاع. وستشمل الخطّة، أيضاً، ترشيد التوظيف الحكومي والترقيات، ووقف صرف العلاوات غير المستحَقّة. وتعمل الحكومة، بالتعاون مع «هيئة التقاعد»، على سنّ قانون للتقاعد المبكر سيُعرض على مجلس الوزراء خلال أسابيع للمصادقة عليه.
السلطة تَنظر إلى موظّفيها المدنيين في القطاع على أنهم يَفلحون في غير أرضهم


وفي مواجهة القرارات المنتظَرة، نظّم موظّفو السلطة في غزة، مطلع الشهر الجاري، اعتصاماً أمام مقرّ «هيئة التأمين والمعاشات»، طالبوا فيه بوقف «مجزرة التقاعد». وقال جهاد ملكة، وهو المتحدّث باسم «التجمّع الوطني لإلغاء التقاعد الموحّد القسري»، إن خطوة التقاعد المنتظَرة ليست الأولى؛ ففي عام 2017، أحالت السلطة 17800 موظّف عسكري إلى التقاعد قسرياً. ويلفت ملكة، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «هؤلاء وجدوا أنفسهم خارج سلّم الرواتب الحكومي، علماً أن نصفهم لم يبلغ سنّ الـ35 عاماً، ما يعني أن السلطة سرقت 25 عاماً من حقوقهم الوظيفية (...) اليوم يعيش هؤلاء ظروفاً صعبة، إذ إن أكثرهم كانوا قد سحبوا قروضاً كبيرة من البنوك، وفيما يسدّدون اليوم 30% من راتبهم الأساسي، وجدوا أن المبلغ الذي يتلقّونه من رواتبهم هو 50% من نسبة 70% من رواتبهم، وبعد خصم مبلغ القرض، لا يتحصّل أكثرهم على أكثر من 20% من مبلغ التقاعد، أي 500 شيكل (الدولار 3.40 شيكل) من قيمة متوسّط الراتب التي كانت تتجاوز 3500 شيكل في الوضع الطبيعي». ويفنّد ملكة ادّعاء الحكومة تطبيق التقاعد على موظّفي السلطة في غزة ورام الله على السواء، مُبيّناً أن «موجة التقاعد السابقة أحالت قرابة 160 موظفاً في رام الله إلى التقاعد المبكر، في مقابل 17800 في غزة»، معتبراً أن «إجراءات تخفيض موازنة الرواتب تتمّ من منطلقات مناطقية، على اعتبار أن الموظفين العسكريين في غزة ليسوا على رأس عملهم، فهم يتلقّون رواتب لا يستحقّونها، علماً أن مَن جلس في بيته كان قد التزم بقرارات الحكومة، التي هدّدت آنذاك بقطع راتب مَن يبقى على رأس عمله». يُذكر أن السلطة أمرت موظّفيها العسكريين والمدنيين بالتزام منازلهم عقب أحداث الاقتتال الداخلي عام 2007، والتي أفضت إلى طرد الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة من القطاع. ومذّاك، أصبح هؤلاء، الذين تتجاوز أعدادهم الـ70 ألفاً، أداة السلطة في معاقبة حكومة غزة التابعة لحركة «حماس»، مثلما جرى في عام 2017، حين خصمت حكومة رام الله 30% من رواتب موظّفيها في القطاع، وذلك لحرمان حكومته من الواردات المالية التي تدْخل دورة المال، وتنعكس في تحسين مستوى الجباية الداخلية، فيما فرضت التقاعد المالي على آلاف الموظّفين المدنيين، الذين تلقّوا على مدار ثلاث سنوات 50% من رواتبهم بعد أن خُصم منها 30%، أي 50% من 70%.
وفيما قلّصت الحكومة أعداد موظّفيها في غزة من 70 ألفاً قبل عام 2007، إلى 33 ألفاً حالياً، يرى المحلّل السياسي، إسماعيل محمد، في ما يجري «خطّة مدروسة تهدف إلى تحويل كافّة موظّفي القطاع إلى هيئة التأمين والمعاشات». ويلفت محمد، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «السلطة تَنظر إلى موظّفيها المدنيين في القطاع على أنهم يَفلحون في غير أرضهم، أو يخدمون جهة معادية، لذا، فهي ليست معنيّة بتحمّل نفقاتهم، إذ تعتقد أن إجبار حماس على ملء الشواغر التي سيتركها الموظّفون المدنيون في وزارتَي الصحّة والتعليم تحديداً، سيضاعف من أعبائها المالية، ويزيد من تعقيد أوضاعها الحكومية». وفي هذا السياق، يشير مصدر حكومي في غزة إلى أن الأزمة التي سيخلّفها إجبار الموظفين على التقاعد، ليست مالية فقط، إنّما أزمة كفاءات، إذ إن معظم هؤلاء يمتلكون خبرة تتجاوز الـ20 عاماً، وسيؤثّر خروجهم من قطاعات حسّاسة مِن مِثل الصحّة والتعليم، على نوعية الخدمة المُقدَّمة للمواطنين.