تونس | ينتظر التونسيون دعوتهم، في خلال أيام، إلى المشاركة في الانتخابات التشريعة المزمع إجراؤها في الـسابع عشر من كانون الأول المقبل، وإعلان انطلاق إجراءاتها لناحية تسجيل القوائم الانتخابية والترشيحات، قبيل بدء الحملة الانتخابية رسمياً في الحادي والعشرين من تشرين الثاني. على أن هذه الدعوة لا يبدو أنها ستفلح في تبديل مزاج الإحباط الطاغي على الشارع، والذي يَدفع إلى توقّْع عزوف شعبي كبير عن المشاركة في الاستحقاق، الذي عرفت الأحزاب حساسية المرحلة التي ينعقد فيها، وفداحة الخسائر التي ستنجم عن الانخراط فيه، وهو ما حمل معظمها على مقاطعته، فيما تريّث بعضها الآخر في انتظار النظام الانتخابي الجديد الذي يهندسه الرئيس
لا يزال الرئيس التونسي قيس سعيد، قابعاً في المربّع نفسه من الإصرار على تعميق الانقسام في البلاد. وفي آخر ظهور له تمهيداً لانطلاق الانتخابات التشريعية، قال سعيد مُخاطِباً رئيس «هيئة الانتخابات»، محمد التليلي المنصري، إن «صياغة مرسوم القانون الانتخابي سيشارك فيها صادقون حقيقيون لا مندسّون»، في تلميح إلى العميد الصادق بلعيد الذي أشرف على كتابة دستور سعيد خلال جلسات «الحوار الوطني» الصُّورية، وتنصّل لاحقاً منه. وفي المقابل، تُواصل الأحزاب مطالبتها بإشراكها في صياغة المرسوم، أو على الأقلّ مراعاة المبادئ الديموقراطية والمعايير الدولية المتعارف عليها في وضع النُّظُم الانتخابية. وفي هذا السياق، طالبت حركتا «الشعب» و«تونس إلى الأمام» المقرّبتان من الرئيس، بإقرار نظام انتخابي يقْطع مع التمويل الأجنبي الذي خرّب الساحة السياسية خلال العشرية الماضية، فيما أعلنت المعارضة الديموقراطية رفضها المسار برمّته، عادّةً كلّ ما أقْدم عليه سعيد بدءاً من الاستشارة، مروراً بالدستور، وصولاً إلى الاستفتاء، محطّات فاقدة للشرعية.
من جهتها، استنفدت منظومة حُكم ما قبل 25 تموز 2021، أوراق الضغط المتوافرة لديها، من دون أن تتمكّن، على رغم رسائل الإسناد الخارجية من الولايات المتحدة وقطر وتركيا، من أن تفرض نفسها شريكاً على سعيد. ولذا، خرجت «جبهة الخلاص الوطني» التي تمثّل تلك المنظومة لتُعلن أنها لن تشارك في السباق الانتخابي. وأرجع رئيس الجبهة، أحمد نجيب الشابي، في ندوة صحافية، هذا الموقف إلى عدّة اعتبارات، من بينها أن الرئيس، وقبيل أيام قليلة من انطلاق العملية، «يُواصل انفراده بالسلطة عبر وضعه نظاماً انتخابياً جديداً من دون استشارة الساحة السياسية وإشراكها». كذلك، أعلنت الأحزاب القريبة من «الخلاص الوطني»، والتي شاركت سابقاً في الحُكم، مقاطعتها الانتخابات، في الوقت الذي يروّج فيه مقرّبون من سعيد لكوْن هذه المقاطعة فرصة مؤاتية لـ«شباب الثورة» للترشُّح منفردين أو تقديم قوائم مشتركة، وهو ما يتّسق مع مشروع الرئيس الرافض للأحزاب بوصْفها المسؤولة عمّا آلت إليه البلاد، والداعي إلى تحرير السلطة من النُّخبة «ومنظومة النفعية والانتهازية» التي كانت جاثمةً على صدور التونسيين.
استنفدت منظومة حُكم ما قبل 25 تموز 2021 أوراق الضغط المتوافرة لديها


على أن هذا الخطاب لم يدفع مُعارضي سعيد إلى تغيير مواقفهم، بل زادهم إصراراً عليها، مُراهنين على أن منظومة حُكم الرئيس ستفشل إنْ عاجلاً أو آجلاً، وستتآكل ذاتياً حتى قبل انقضاء العُهدتَين الرئاسية والتشريعية. ويعود ذلك الإصرار إلى أسباب موضوعية، تتجاوز احتكار سعيد للعبة السياسية وقواعدها، وتتعلّق أساساً بتنامي شعور الإحباط في الشارع، ورفض أغلبية الناخبين المشاركة في محطّات لا فائدة تُرتجى منها. ومع احتدام الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في تونس، ولا سيما لناحية انقطاع المواد التموينية والقفزة القياسية في الأسعار، تبدو البلاد مربوطة بصاعق، ينتظر شرارة حتى ينفجر ويفجّر معه الاحتجاجات الشعبية مجدّداً. ويضاف إلى ما سبق، نزيف الهجرة غير النظامية الذي اشتدّ في الآونة الأخيرة، ومن شأنه تعريض سلطة سعيد لضغط أوروبي هائل، نتيجة تدفّق آلاف الشباب لا في اتّجاه المتوسط فقط، وإنّما أيضاً نحو صربيا ومنها إلى المنافذ الأقلّ حراسة المؤدّية إلى دول أوروبية. واللافت للانتباه هنا، أن أرقام الهجرة غير النظامية التي تقدّمها منظّمات مدنية، تتطابق والأرقام المُسجَّلة في سنتَي 2011 و2012، أي في فترة الانتفاضة.
في ظلّ هذه الأوضاع، تنقسم الساحة السياسية المعاِرضة لسعيد إلى أربعة أقسام: أولها يفضّل مقاطعة الانتخابات، ويحاول تهشيم «شرعيّتها» أمام «المجتمع الدولي» بوصْفها ستنعقد بغياب الأحزاب الفاعلة؛ وثانيها يرْهن المشاركة بما سيكون عليه القانون الانتخابي الجديد، وثالثها يَعتبر أن الظرف المجتمعي غير سانح بالمرّة لإجراء انتخابات سيميّزها العزوف عن التصويت، والنُّخبة الفائزة فيها ستتحمّل فاتورة ارتجال سعيد وعجز حكومته عن تقديم أيّ حلول، وآخرها - وهو الأقلّ انتهازية - يَعتبر أن الأولوية هي لتأطير احتجاجات التونسيين وخوض معاركهم الحقيقية. ولعلّ المشترك ما بين هؤلاء جميعاً هو أنهم لا يريدون إقحام أنفسهم في نزال انتخابي في أوْج الإحباط المجتمعي؛ إذ حتى لو نجوا من العزوف، فلن ينجوا من المحاسبة.