«- هل لديك فكرة عمّا يحصل خارج المنطقة الخضراء؟ إنها فوضى عارمة... - الديموقراطية هي فوضى»
[(2010) «Green Zone» من حوار في فيلم]

غداةَ قرّر رئيس وزراء العراق السابق، عادل عبد المهدي، فتْح أبواب «المنطقة الخضراء»، بدَت بغدادُ في كرنفالٍ لمعاينة صندوق فُرجةٍ عجائبيّ. جمهورٌ يتحسّسُ عن قرب هيكل «الفقاعة» الحاكمة للمرّة الأولى. في الآن عينه، لم يعْنِ القرار الكثير، اللهم سوى تفاعل العلاقة السوسيو-نفسية الملتبِسة للعراقي مع هذه البقعة، عشيّة اندلاع احتجاجات تشرين في قلْب عاصمته (لعلّ الاستعارة - «القلب» - ذات الحمولة الإيجابيّة، ليست هنا العبارة الأصوب، على عادةِ نعْت «داون تونات» المدن، فتتبقّى منها دلالتها الجغرافية وحسب!).
العلاقة بين الخضراء وما خلْف الأسوار والكتل الكونكريتية تُفتتح اليوم بالصادر منها مِن أخبار صفقات فسادٍ ومحاصصات وخلافات وتدخّلات خارجية وإشاعات ونميمةٍ سياسية، وتُغلق بالوارد إليها مِن اقتحامات شعبيّة تَهجم مِن الأرض، وصواريخ و«هاونات» ومسيّرات تحطّ مباغتةً مِن السماء. وفي مشهديّات العلاقة/ القطيعة هذه، توكيد على أن فوضى «الديموقراطية الوليدة» مِن رحم الدبّابات وصواريخ «كروز» باتت تتعدّى إلى أزمة عميقة. نحن أمام مربّع أمني، لا يحمي مِن الهجمات، ولا يؤمّن عزلةً كافية لتسيير أعمال الحكّام كالتئام البرلمان... أمام انعدامٍ لوظيفيّة المربّع الأمني تبعاً لاهتراء نظام العملية السياسية، وانكشاف أن «الحماية» في العراق أعقدُ مِن أن تكون أمنية على الدوام.
«المنطقة الخضراء» وسط بغداد (الحاضرة العباسية المشيّدة في القرن الثامن كمدينة مستديرة محصّنة إزاء خارجها)، هي منذ عام 2003 قطعةٌ حصينة مقابل كلّ المناطق «الحمراء» و«الصفراء»، في «الخارج»/ الداخل، أي محصّنة مِن بغداد «الحقيقية» نفسها... عالمٌ موازٍ، التداخل معه بالغ التعقيد وممتنعٌ أغلب الأحايين. تبدأ مفارقاتها بالاسم: «الخضراء»، بحدّ ذاته محْض صلف أميركي. فهو ترميز أمني دشّن قطْعاً مع التاريخ والجغرافيا والاجتماع؛ الأخضر، أي الآمن، أو بالأحرى محتكر الأمان، قبالة الأحمر، أي البقع المصنَّفة خطرة أمنيّاً (عدوّة؟) ما وراء الأسوار العالية. الحاكم الأميركي، بول بريمر (الذي يعترف في مقابلاته بأنه لم يكن يعرف العراق والمنطقة)، تجاهَل أن «الخضراء» اسم لحيّ بغدادي آخر بالفعل! وتسمية بريمر (مَن استبدل أوّل يوم استتبّ له أمر بلاد الرافدين آلافاً مِن «المتعاونين» بآلاف من سكّان الحي)، هي السارية والطاغية، ولا يعطي كثيرون بالاً لأن ثمّة تسمية رسمية لها: «المنطقة الدولية» (وفيها هي الأخرى رمزيّة صريحة لوظيفيّة المنطقة).
«المنطقة الخضراء»، ولا صدفة، هي النعت الأميركي كذلك للناحية المحصّنة وسط كابول، عاصمة أفغانستان، في حيّ وزير أكبر خان (الحيّ الديبلوماسي). كانت، إلى العام الذي تصرّم، موئل الحكم والإدارة الأمنية وقيادة «الأطلسي»، وتنعمُ بكهرباء بلا انقطاع دوناً عمّا جاورها مِن أحياء. بيد أن «خضراء كابول» البائدة، رغم تشابُه الإرث الاحتلالي وفوارقها الطبقيّة، لا تزخر بغنى الصور المتناقضة بقدْر «خضراء بغداد» المترنّحة! تتكثّف في «خضراء بغداد» الصور، مُحاكيةً مربّع الأزمة العراقية: الخارج، الفشل، الطائفيّة، الفساد. وإذا أغفلنا السبب الأمني للاسم، ولاحظنا أن «الخضراء» يحيل إلى الطبيعة الولّادة المتجدّدة، نجده هنا مرادفاً لعقمٍ سياسي، فضلاً عن الأزمات المتناسلة. لم يكْفِ إعلان خروج المحتلّ ليغيّر المشهد، وهو الذي خلّف وراءه أكبر سفارات أميركا بملحقاتها الأمنية والعسكرية، وطبعاً، توابع متمدّدة في السياسة والأمن ومتغلغلة في صنوف القطاعات.
في الأحداث الأخيرة، وبينما كان شبّان «صدريّون» يعيدون إنتاج المشهد السيرلانكي في بركة سباحة أحد القصور الرئاسيّة، لم يرْعَ انتباه متابعين أن القصر المجاور هو المكان الذي جمع أخيراً السعوديين والإيرانيين في جلسات الحوار، وجمع أيضاً الرئيس المصري إلى أمير قطر، وقبل عقْد الأميركيين إلى الإيرانيين على طاولة وجهاً لوجه، في حدثٍ نادر. المنطقة المحكومة بالنفوذ الأميركي والإيراني، المتنازِع والمتعايش في آن، تبدو برغم ذلك، أو بسببه، غير محكومة البتّة. التقاء «الكبار» إقليمياً ودولياً، ديبلوماسياً وأمنياً، في هذه الجغرافيا، مِن حين إلى آخر، لا يعود تلاقياً للتيّارات العراقية، ولا دفئاً بين العراقيين وسكّان «الخضراء» حيث تتجاور التناقضات؛ مقرّات الأميركيين ومَن قاتلهم وتُصنّفهم واشنطن إرهابيين، وما بينهما مِن ساسة كأنهم شركات مساهِمة تتوزّع في الواحد منهم حصص النفوذ على دول الإقليم والغرب، وتتحرّك كمؤشّرات الأسواق المالية، ويتشابهون باقتناء أغلبهم عقارات خارج البلاد. برغم كلّ هذا الإرث، لا يتعب المنظّرون الأميركيون من تقديم النصائح. آخرهم مايكل نايتس (خبير «الشركات الأمنية» و«مكافحة الإرهاب») في «معهد واشنطن». لقد اكتشف للتوّ وصْفة سحرية لـ«الخضراء»: «تطهيرها وتعزيزها» عبر طرد «الميليشيات» في سبيل الحفاظ على «سلامة الحكومة وعناصر السلك الديبلوماسي»، فتغدو بفضل ذلك «مركز حُكم تسيطر عليه قوات الأمن العراقية بالكامل ويتمتّع بالولاء للحكومة».
كلّ الأشياء والشخوص في «خضراء بغداد» تتلاقى وتتنافر، على مدار الساعة. وحين يجتاز غاضبون مِن أبناء الأحياء البغدادية المهمّشة العوائقَ الخرسانيّة، بصرْف النظر عن خلفيّاتهم ومطالبهم، فيُدخلون الفوضى في «الخارج» إلى «حيث تنتمي»، ويفرغون غضبهم بانتقام ويعبثون بالجزيرة المعزولة والمتخمة، لا ينبغي أن يُنظر إلى المشهد باختزال واستهوال على أنّه أسوأ فصول الرواية، أقلّه، ليس بفظاعة وجود «منطقة خضراء» - يتمسّك نايتس بها - مِن الأساس!