رام الله | على رغم التوصيات الأميركية للحكومة الإسرائيلية بضرورة إقرار إجراءات عاجلة لتحفيز السلطة الفلسطينية على اتّخاذ خطوات عملياتية إزاء تَفجُّر الأوضاع في الضفة الغربية، تتريّث تل أبيب في تحريك أيّ مبادرة «إنقاذية» تجاه رام الله، متّكلةً بدلاً من ذلك على جهودها العسكرية الذاتية في محاولة محاصرة حالة الاشتباك المتنقّل في الأراضي المحتلّة. إلّا أن استمرار المواجهات والعمليات ومحاولات تنفيذ عمليات على رغم تصاعد العدوان الإسرائيلي، واتّساع رقعة المقاومة إلى وسط الضفة وجنوبها، يشيان بأن العدو - أقلّه وفق ما يبدو إلى الآن - لن يستطيع إطفاء هذه الهَبّة الجديدة في مهدها
تتشكّل، يوماً بعد آخر، في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ملامح هَبّة جديدة، مختلفة عن الانتفاضات السابقة من حيث الشكل، ومُشابهة لها في بعض آليات عملها بما يتلاءم مع المرحلة الحالية. وإذا جاز اعتبار ما يجري في الضفة الغربية منذ سنوات انتفاضات، فإن نموذجها الحالي يختلف بالتأكيد عن الانتفاضة الأولى التي اتّخذت طابعاً شعبياً، وشارك فيها الشباب والأطفال والنساء وكبار السنّ، وكانت الحجارة سلاحها الأوّل، بينما طغى العمل العسكري المنظَّم الذي تقوده أجنحة الفصائل العسكرية على ملامح الانتفاضة الثانية. ومنذ عام 2014، تعيش الضفة مدّاً وجزراً في العمل المقاوم؛ إذ لم يعجز الفلسطينيون عن ابتكار أسلوب جديد من المقاومة والاشتباك، من خلال العمليات الفردية، سواء عمليات الدهس والطعن أو إطلاق النار، على رغم غياب البنية التنظيمية العسكرية للفصائل، والتي كانت تقود مِثل هذا العمل. إلّا أن بعض التنظيم بدأ يَبرز منذ عام تقريباً، مع نشوء خلايا مقاومة مسلّحة - على رأسها «كتيبة جنين» ومن ثمّ «كتيبة نابلس» و«كتيبة طوباس» -، فجّر وجودها اشتباكاً يومياً مع قوّات الاحتلال، بدأ في حيّز جغرافي ضيق، وانتقل مع مرور الوقت إلى أماكن جديدة، ما شجّع على تنفيذ المزيد من العمليات الفردية.
وإذ تبدو ملامح الحياة في الضفة عادية من بعيد، إلّا أنه عند التدقيق عن قرب، يمكن استشعار حرارة الأوضاع، كالجمر تحت الرماد، والذي يغلي في انتظار لحظة الانفجار. إذ باتت حالة الاشتباك والمواجهة حدثاً يومياً، يتّسع أفقياً وعمودياً، وكذلك العمليات الفدائية التي أضحى الشبّان الفلسطينيون أكثر جرأة على تنفيذها، بينما تجد سلطات العدو نفسها أمام حالة متدحرجة، تعجز آليات إرهابها عن قمعها والحدّ منها. وسُجّلت، خلال الساعات الـ 24 الماضية في الضفة، 4 عمليات إطلاق نار، ونحو 21 عملية رشق حجارة وزجاجات حارقة وعبوات نحو مركبات المستوطنين خلّفت إصابات وأضراراً. وشهدت بلدة حوارة قرب نابلس عملية إطلاق نار من قِبَل مركبة سريعة ضدّ مركبتَين للمستوطنين، قبل أن تتمكّن سيارة المقاومين من الانسحاب من المكان، بينما أصيب مستوطن بجروح، ما حمل جيش الاحتلال على إغلاق البلدة. أيضاً، أصيب مستوطن جرّاء إطلاق النار من قِبَل مقاومين على مستوطنة «كرمي تسور» شمالي محافظة الخليل جنوبي الضفة. وتُعدّ هذه العملية الأخيرة أحد المؤشّرات التي تُبيّن سبب خشية سلطات العدو من تمدُّد حالة الاشتباك؛ إذ إنه إذا ما وقعت في الأيام القليلة المقبلة عمليات مشابهة في الجنوب، فقد يمكن القول عندها إن هذه الحالة باتت تعمّ الضفة، نظراً إلى اتّساع النطاق الجغرافي وغزارة النار التي ستُطلق.
دخول صاعق جديد مِن مِثل استشهاد أحد الأسرى لن يؤدي إلّا إلى زيادة الأوضاع سخونة


وليست عملية الخليل المؤشّر الجديد الوحيد إلى توسّع رقعة المقاومة، بل سُجّلت، عصر الخميس، محاولة لم يُكتب لها النجاح، لتنفيذ عملية فدائية وسط تل أبيب، بعدما تمكّن أحد الشبّان من مدينة نابلس (20 عاماً) من الوصول إلى وسط مدينة يافا التي تُقام على أراضيها مدينة تل أبيب، وفي حوزته بندقية «كلاشنكوف» ومجموعة من العبوات المتفجّرة محلّية الصنع (أكواع)، وكان في طريقه إلى تنفيذ هجوم قبل أن يتمّ اعتقاله في اللحظات الأخيرة. ونقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية عن الشرطيّ الإسرائيلي الذي اعتَقل الشاب قوله: «رأينا شيئاً ما باللباس الأسود، لاحظ وجودنا وحاول الابتعاد، مِن حقيبته ظهَر شيء ما يبدو أنه سلاح، كُنّا بالإمكان أن نكون في ساحة فيها قتلى»، في حين احتملت مصادر في شرطة الاحتلال «تسلُّل الشاب من فتحة في الجدار في منطقة طولكرم، واستقلاله تاكسي إلى منطقة الميناء في يافا»، قبل أن تُفيد مصادر عبرية لاحقاً باعتقال شقيقه أثناء مروره على حاجز حوارة قرب نابلس. وتزامَنت هذه المحاولة مع جلسة مشاورات أمنية عقدها رئيس حكومة العدو، يائير لابيد، في مبنى هيئة الأركان، لتباحُث الأوضاع في الضفة. وحذّر قادة «الشاباك» والجيش الإسرائيلي، خلال الجلسة، مسؤولي الحكومة من اشتعال الضفة بأكملها، وعدم اقتصار حالة الاشتباك على شمالها، وفق ما نقلته قناة «كان» العبرية.
وإزاء إجماع قادة الاحتلال الأمنيين والعسكريين على خطورة الوضع الأمني، وتزايُد مؤشرات اندلاع انتفاضة عارمة، وفشل الوسائل «التقليدية» في قمع هذه الحالة، تُواصل حكومة العدو إلقاءها اللوم على السلطة الفلسطينية في ما يجري، على خلفيّة ضعفها وتقصيرها. وفي هذا الإطار، نقلت «كان» عن مسؤول سياسي إسرائيلي، عقب الاجتماع الذي رأَسه لابيد، أن «الأجهزة الأمنية الفلسطينية يجب أن تزيد من نشاطها في مدن الضفة، وأن الجانب الفلسطيني يجب أن يُظهر مسؤولية في هذه القضية لمنع تصعيد الأوضاع أكثر». وتجد القيادة الإسرائيلية في اتّهام السلطة بعدم القيام بالدور المطلوب منها في ملاحقة المقاومين، مَخرجاً لها، مغفِلةً أيّ حديث عن إطلاق «عملية سياسية»، تستمرّ رام الله في تسوّلها، ويبدو أنها سقطت بالكامل من برامج الأحزاب الصهيونية، التي تتهيّأ لخوض انتخابات جديدة في تشرين الثاني، عنوانها العريض إثبات مَن هو أكثر يمينية من غيره، في ما يؤكد أن السلطة لم تَعُد بالنسبة إلى الإسرائيليين أكثر من وكيل أمني «سيّئ الأداء». وفي السياق نفسه، اعتبرت صحيفة «معاريف»، أمس، أن الانتقادات التي وجّهها رئيس أركان جيش الاحتلال قبل عدّة أيام إلى السلطة، «لن تَدفع الأخيرة إلى بذل مزيد من الجهود في هذا الجانب، لأن السلطة لديها مشاكل كبيرة، حيث تُوجَّه إليها انتقادات بسبب التنسيق الأمني، وكذلك يرى الشارع الفلسطيني أنها نظام فاسد». وأشارت الصحيفة إلى أن «الجيش الإسرائيلي رصد منذ أكثر من عام انخفاض سيطرة السلطة وأجهزتها الأمنية على مخيمات اللاجئين في شمال الضفة وخاصة جنين، ولكن خلال الفترة الحالية بدأت هذه الظاهرة تنتقل إلى نابلس ومخيّمات أخرى».
وفي أوّل تعقيب على الاتّهامات الإسرائيلية، نقل موقع «واللا» العبري عن وزير الشؤون المدنية، حسين الشيخ، الذي يُعدّ قناة اتصال السلطة مع تل أبيب، قوله إن «إسرائيل هي مَن أضعفت السلطة عبر الاقتحامات اليومية للمناطق الفلسطينية»، وإن «السلطة لا يمكنها أن تقبل بواقع تَقتحم فيه قوات الاحتلال الأراضي الفلسطينية كلّ ليلة، وبعدها يُطلب منها العمل في النهار ضدّ المسلحين». وكشف الشيخ أن رام الله عرضت على تل أبيب «التوقّف عن الاقتحامات كفترة اختبار لمدّة 4 أشهر سعياً لتهدئة الأوضاع، إلّا أن الاحتلال رفض العرض»، متّهماً إسرائيل بخنق السلطة اقتصادياً، مضيفاً أن الأخيرة حذّرت حكومة الاحتلال، على مدار الأشهر السابقة، من أن استمرار هذه السياسة سيؤدّي إلى «تدهور الأوضاع، ولم تكن هناك أيّ استجابة».
وإذا كانت الاقتحامات والاعتقالات وعمليات القتل قد أدّت إلى تفجير الأوضاع الأمنية في الضفة، فإن دخول صاعق جديد مِن مِثل استشهاد أحد الأسرى لن يؤدي إلّا إلى زيادتها سخونة، وهو الأمر الذي لاح في الأفق خلال الساعات الماضية، حيث أعلن «نادي الأسير الفلسطيني» أن الأسير ناصر أبو حميد يحتضر في أحد مستشفيات الاحتلال. وكانت عائلة ناصر قد أعلنت، في مؤتمر صحافي الخميس، أن التوصية الطبّية التي حصل عليها نجلها خلال الساعات الفائتة، تدعو إلى فحص إمكانية السماح له بالخروج من السجن ليقضي أيامه الأخيرة بين عائلته، وقد أُبلغ بذلك بعد نقله إلى مستشفى «آساف هاروفيه» الإسرائيلي، لإطلاعه على نتائج الفحوص التي خضع لها ومنها التصوير الطبقي لجسده. وأكدت العائلة أن ناصر تأخَّر كثيراً في تلقّي العلاج نتيجة سياسة الإهمال الطبّي والقتل البطيء التي تنتهجها إدارة سجون العدو، موضحة أن ابنها لم يَعُد يتلقّى منذ شهرَين أيّ جرعة علاج، لعدم تجاوُب جسده مع العلاجات.