ربما يثير مصطلح «جدليّة» علامة استفهام، لجهة تصنيف إحدى جولات المواجهة مع الاحتلال من غزة أمراً خلافياً بين أكبر فصيلين مقاومين في القطاع، «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، لكنه تُرجم عملياً إلى «جدل» عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد معركة «وحدة الساحات»، في مقابل «الفجر الصادق» الإسرائيلية، والتي خاضتها «الجهاد» منفردة من دون« حماس». وصولاً إلى وسائل الإعلام الكلاسيكية التي أطل من خلالها القادة الفلسطينيون، من الفصيلين، وإن حرصوا على ما يسمّى «وحدة الموقف» إلا أن هذا لم يمنع موسى أبو مرزوق، رئيس مكتب العلاقات الدولية في «حماس»، في مقابلة على «بي بي سي عربي»، في 15 آب 2022، من أن يتحدّث عمّا سمّاه «قرار الحرب والسلم»، رابطاً الدخول في حرب مع الاحتلال بـ«استعدادات المقاومة والظروف التي تحيط بها». مما استدعى رداً من عضو المكتب السياسي لـ«الجهاد» أنور أبو طه، بأن «المواجهة بين شعبنا والاحتلال ليست بين دولتين وجيشين... وإنما ما يجري هو فعل اشتباك دائم مع الاحتلال» (موقع فضائية «فلسطين اليوم»، 16 آب 2022).فما خلفيّة «الاشتباك الدائم»، أو «إبقاء جذوة الصراع مع الاحتلال»، كمفهوم وتطبيق لدى «الجهاد الإسلامي»؟
يعود هذا المفهوم في أدبيات «الجهاد» إلى المؤسس، الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي. في دراسة نشرتها مجلة «منبر الشرق» المصرية في عدد الثامن، تموز 1993، ونشرها لاحقاً مركز «يافا» للدراسات والأبحاث في القاهرة، في كتاب «رحلة الدم الذي هزم السيف؛ الأعمال الكاملة للشهيد الدكتور فتحي الشقاقي»، الصادر عام 1997 في دراسة تحت عنوان «الاستقلال والتبعية في الحوض العربي-الإسلامي، رؤية نهضوية»، يشير الشقاقي في الصفحة 391 إلى ما يلي:
«إن مسألة تحرير فلسطين هي مسألة مشروع ينظّم إمكانيات الأمّة، ويرد على حرب العدو الشاملة، بحرب شاملة ثقافية وفكرية واقتصادية، وعسكرية، ويبقى دور المجاهدين في فلسطين، هو إحياء فريضة الجهاد ضد العدو ومشاغلته واستنزاف طاقاته وكشف وجهه البشع، وتدمير ما يستطيعون من قدراته، وإدامة الصراع حيّاً حتى وحدة الأمّة وتحقيق النصر، والتصدّي لمؤامرات تصفية القضية التي يوجهها الغرب».
لقد نظَّر الشقاقي لمفهوم «المشاغلة والاستنزاف»، مهما كلّفت الأثمان، إلى أن تحقّق الأمّة الوحدة والنصر على أعدائها، لتعود إلى فلسطين داعمة لمشروع التحرير. وإن كانت «الجهاد» بعد استشهاد الشقاقي، استبعدت من خطابها مفهوم الوحدة والنصر للأمّة لأنه يبدو بعيد المنال، إلا أن مفهوم «المشاغلة والاستنزاف» أو «إبقاء جذوة الصراع» مع الاحتلال هو أمر محتم، بل هو من صلب عقيدتها، وهو ما ترجمته في غزة في حروب متتالية، والضفة والقدس سابقاً، وما ظهر أخيراً عبر انتشار كتائبها في جنين، ونابلس، وطوباس، وقلقيلية، وأين ما تستطيع أن تصل يدها إليه. وإن كانت «الجهاد» تراعي الظروف والمستجدات، إلا أنها ليست الحاكم في صراعها مع العدو، لأن النتائج ستكون سيئة، فكفى ما خلّف اتفاق أوسلو من ويلات على مجمل فلسطين، وما أسس من أوضاع كارثية.
هل لغزة خصوصية في تطبيق مفهوم «المشاغلة والاستنزاف»، وهل هو بحاجة إلى إعادة تكييف مع المستجدات الأخيرة؟
ربما من الصعب جداً إغفال ما جرى أخيراً في معركة «وحدة الساحات» التي خاضتها «الجهاد» منفردة من غير «حماس»، وهي ليست السابقة الأولى، فلقد خاضت «سرايا القدس»، الجناح العسكري لـ«الجهاد»، كذلك منفردة حرباً عام 2019 إثر اغتيال القائد في السرايا بهاء أبو العطا، عبر طائرة «درون» في غزة. بالتالي نظرياً لا شيء يمنع تكرار ذلك، لكن هل هناك من محاذير؟ هل الحروب التي خاضتها المقاومة في السابق، ووصلت فيها إلى تعهّدات واتفاقات مع الاحتلال عبر الوسيط المصري، والتي لم تؤدِ بالاحتلال إلى أن يقوم بتنفيذها، بل تنصّل منها رويداً رويداً، بعد وقوع مئات الآلاف من الشهداء والجرحى، فضلاً عن تهجير مئات الآلاف من بيوتهم، والتي لم ترمم منذ حرب عام 2014، أسباب تراها «حماس» موجبة لما يسمّونه «تنسيق الرد» عبر «الغرفة المشتركة»؟ فإذا كان الأمر كذلك، كيف نفسّر دخول «حماس» معركة «سيف القدس» عام 2021 دفاعاً عن المسجد الأقصى، وحي الشيخ جراح، والتي بدورها أرست معادلات جديدة، فهل تغيّرت الظروف، أم الأمور كما هي في القطاع؟
هل كان على «الجهاد» أن تدرك أنه منذ العام 2019 تمنّع «حماس» عن المشاركة سيتكرّر؟ وهل فقد التنسيق معناه، مع «تاسعة البهاء» المشهورة، على المستوطنات، بالتالي، هل يدخل في الإطار ذاته، استنفار «سرايا القدس» الأخير دعماً للأسير خليل عواودة الذي انتصر على السجّان بعد أكثر من 170 يوماً على إضرابه عن الطعام رفضاً لاعتقاله الإداري، فضلاً عن التوتر الذي أجّجه اعتقال القيادي في «الجهاد» بسام السعدي من منزله في جنين، وما استتبعه من عدوان إسرائيلي على القطاع؟ التساؤلات جميعها، في رسم الحركتين.
هل ستتكيف «الجهاد» مع المعطيات الجديدة؟ يبدو من المستبعد جداً أن تتخلّى «الجهاد» عن «جذوة الصراع» مشتعلة، أو «الاستنزاف» مع المحتل من غزة، أو تفرّط بما تعتبره إنجازاً في معركة «سيف القدس» وما فرضته من معادلات جديدة، في الضفة والقدس. وإن كانت «الجهاد» ضنينة بدماء الشعب الفلسطيني في القطاع، إلا أنها ترى أن سلاح المقاومة في غزة له مهام تتعدى القطاع إلى ساحات أخرى في فلسطين، وما قضية السعدي وعواودة إلا ترجمة فعلية لهذا المفهوم. وما جرى أخيراً من قتل القائدين في «سرايا القدس»، تيسير الجعبري وخالد منصور، وما سبقه من قتل بهاء أبو العطا، هو اعتداء من الاحتلال، كان يجب الرد عليه. ووفق مصادر «الجهاد»، فلقد طلبت الحركة أن يكون ردّها منسقاً مع «حماس»، إلا أن الرد كان سلبياً، فهل ما حدث مفصل يؤدي في المستقبل إلى مسارات مختلفة، إن لم نقل متضادة؟
تساؤلات كثيرة طرحت، وحلول كثيرة جرى الحديث عنها في الآونة الأخيرة حتى من مراكز أبحاث فلسطينية، ومنها مركز «الزيتونة» للدراسات والاستشارات الذي عقد حلقة نقاش في 10 آب 2022 شارك فيها باحثون وقادة من «حماس» و«الجهاد» اقترحوا فيها جملة حلول وتوصيات، ومنها «العمل على إنشاء لجنة أو إطار سياسي موحد للمقاومة الفلسطينية لوضع استراتيجية لمواجهة العدو، وهذا يتطلب حواراً استراتيجياً بين حماس والجهاد وبقية فصائل المقاومة».
ربما يكون هذا حلاً مؤقتاً، لكنه لن يكون كافياً لحل المشكلة، لأن المعركة هي مع عدو غادر يتصيّد الفرص، ويعتبر أنه حقق نجاحاً «باهراً» في تحييد «حماس»، التي صرّحت «الجهاد» على لسان أمينها العام زياد النخالة أنها «العمود الفقري» للمقاومة. بالتالي، ربما هذا يفسر ما قام به الاحتلال من اقتحامات وتوجيه ضربات لـ«سرايا القدس» في الضفة في اليوم التالي من وقف إطلاق النار، معتبراً أنه قيَّد «الجهاد» في غزة. فما الذي يمنع الاحتلال من أن يكرّر جرائمه في استهداف آخر ليس لقادة «الجهاد» فحسب، بل لأي قائد من الفصائل الفلسطينية في القطاع، لدى أي أزمة داخلية في الكيان، انتخابية أو غيرها، على حساب الدم الفلسطيني. وفي حال تكرّر المشهد من جديد، عبر «الجهاد»، أو «حماس»، أو «الجبهة الشعبية»، أو أي فصيل آخر، فهل سيخوض هذا الفصيل أو ذاك المواجهة منفرداً؟
لا شك أنها معادلة صعبة، ومعقّدة، بين «إبقاء جذوة الصراع مشتعلة»، وبين التكيُّف مع المستجدات الداخلية في غزة، بين من يعتبر أنه مسؤول عن حياة اقتصادية وصحية ومالية للقطاع بحكم الأمر الواقع، ووجوب اختيار المعارك بالتوقيت «المناسب»، وبين من يتخوّف أن يكبِّل سلاح المقاومة بتعقيدات الحياة الصعبة في القطاع، ويمكّن الاحتلال من الاستفراد بالضفة والقدس.
قيل في السابق «لا حرب من غير حماس، ولا هدنة من غير الجهاد»، فهل ستتغيّر المعادلة؟