يتعاظم القلق الأمني الإسرائيلي في أكثر من اتجاه، بدءاً من مخيم جنين وما يشكله من معضلة ويفرضه من معادلات لم تنجح معها كل أدوات القمع الإسرائيلية، وعموم الضفة الغربية التي تتّسع فيها رقعة المقاومة وقوتها وشراسة عملياتها، مروراً بقطاع غزة، مخزون المقاومة الاستراتيجي، الذي يتهيأ للمواجهة المقبلة، وصولاً إلى لبنان حيث دبّت المقاومة الرعبَ في استقرار الكيان، فيما تتقلّص المهلة الزمنيّة التي منحتها له كلّ يوم، وختاماً بإيران، وهاجس المستقبل وخطر الاندثار.لكن مخيم جنين لا يزال يمثل القلق الأول لجيش الاحتلال في الضفة الغربية، باعتباره الحاضنة الأكثر قوة وتماسكاً للمقاومة، بما يملكه من أوراق ومفاجآت تشكل ضغطاً متزايداً على المستويات الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية، والتي كان آخرها تسجيلاً مصوراً لمجموعة من مقاتلي «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، أثناء قيامهم بتدريبات في جبال جنين. ويظهر في التسجيل الذي انتشر عبر وسائل الإعلام المحليّة ووسائل التواصل، قرابة 10 مقاتلين من «القسام» مدجَّجين بسلاحهم الشخصي الخفيف. وعقب انتشاره، شنّت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حملةَ اعتقالات واسعة في المدينة طاولت صحافيين، كان منهم محمد عتيق، وعدد من الشبّان، من بينهم أسامة أبو جعصن، ومحمود منجد العرقاوي، وزياد القنيري، ويزن سوقية. وبعث التسجيل بقلق مشابه لدى الأوساط الأمنية الإسرائيلية، وفق «القناة 12» العبرية التي اعتبرته «استثناءً»، كونه «يرمز إلى الفترة الأخيرة التي نرى فيها المزيد من الشبان الفلسطينيين المسلّحين ينفّذون عمليات إطلاق نار بوتيرة غير مسبوقة، وتخشى المؤسّسة الأمنية أن يؤدّي هذا التصعيد إلى انفجار». وجاء تسجيل «القسام» ليعزز المخاوف من عودة هذه الأخيرة إلى تشكيل خلايا مسلّحة وتفعيلها في الضفة الغربية، والتي بدأت تظهر منذ جنازة القيادي في «حماس»، وصفي قبها، في تشرين الثاني 2021 في جنين، التي شهدت خروج عشرات المقاتلين من «القسام» بأسلحتهم للمرة الأولى بشكل علني، وهو الأمر الذي أغضب السلطة الفلسطينية وقيادتها.
ما يجري في جنين، لا ينفصل عما تشهده الضفة الغربية من تَصاعد في وتيرة العمل المقاوم، سواء لجهة شن عمليات إطلاق نار على المستوطنين، أو من خلال التصدي لعمليات الاقتحام والاعتقالات اليومية، وهو ما اعتبرته الأوساط الأمنية الإسرائيلية قلقاً حقيقياً، لأنه قد يسفر عن اندلاع انتفاضة شاملة، وهو السبب الذي دفع الاحتلال إلى الموافقة على طلبات الأسرى قبل خوضهم في إضراب مفتوح عن الطعام، كونه كان يمثل أحد الصواعق التي يمكن أن تُسرّع بذلك الانفجار. وبحسب «القناة 13» العبرية، فإن جيش الاحتلال و«الشاباك»، يقدّرون، بعد تنفيذ خمس عمليات في أسبوع واحد، آخرها طعن جندي من «لواء جفعاتي» قرب مستوطنة كريات أربع في الخليل، حدوث تدهور أمني وبداية تصعيد جديد، وأن ضباطاً كباراً في الجيش الإسرائيلي أكدوا أنهم ينوون استئناف العمليات في المناطق، حتى لا تقع عمليات في تل أبيب، في حين عقدت مستشارة كبيرة في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في إسرائيل، سلسلة لقاءات جمعتها أخيراً إلى كبار المسؤولين في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية، لتعرب عن مخاوفها من حدوث تدهور أمني في الأشهر المقبلة، في الضفة الغربية.
يمتد القلق الأمني الإسرائيلي من الضفة، إلى الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة


وتستند التقييمات الأمنية الإسرائيلية إلى مؤشرات وأرقام مقلقة في العمل المقاوم، إذ قالت «القناة 12» إنه خلال الشهر الماضي وقعت 10 عمليات إطلاق نار وطعن، إلى جانب عشرات حالات رشق الحجارة كل أسبوع، وأكثر من 60 عملية منذ بداية العام، بينما أحبط «الشاباك» حوالى 200 عملية إطلاق نار. وبحسب محلّل الشؤون العسكرية في «هآرتس»، عاموس هرئيل، فإن «الضفة الغربية في طريقها إلى الاشتعال، فيما لا تعمل الحكومة الإسرائيلية لمنع ذلك»، مشيراً إلى أن «الخوف من انتفاضة فلسطينية يُذكر في كل حديث مع شخصيات رفيعة من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وعلى رغم أن المشاورات الأمنية الإسرائيلية تنصبّ على الاتفاق النووي الجديد الذي يتبلور بين إيران والدول العظمى، وفي الخلاف الحدودي البحري مع لبنان المترافق مع تهديدات حزب الله، لكن في كل حديث مع شخصيات إسرائيلية عسكرية رفيعة تُذكر ساحة أخرى من المحتمل أن تشهد حالة من التصعيد، هي الضفة الغربية».
إذن، يمتدّ القلق الأمني الإسرائيلي من الضفة، إلى الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، في ضوء اقتناع العدو بجدية تهديدات الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، وقوّة رسائل التهديد التي أرسلها «حزب الله»، والتي تترافق مع ضيق المدة الزمنية المتاحة له، للتوصُّل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، مع بدء شهر أيلول الذي كان متوقّعاً أن يشهد بداية استخراج الغاز من حقل «كاريش». وانسجاماً مع ما تقدَّم، وعلى رغم أن جيش الاحتلال أنهى في حزيران الماضي مناورة ضخمة بعنوان «عربات النار» امتدّت لشهر في منطقة الجليل الأعلى على الحدود مع لبنان، فهو عاد، يوم أمس، وعلى وقع التصعيد في الشمال، ليعلن عن إجراء مناورة عسكرية ستستمرّ حتى الثلاثاء، وتحاكي قتالاً عسكرياً عند المناطق الحدودية يتخلُّلها حركة نشطة للمركبات العسكرية، بهدف تأهيل الجنود والقادة لمختلف السيناريوات، ورفْع جاهزية القوات الإسرائيلية لحالة الحرب، في حين يواصل جيش الاحتلال تعزيز قواته عند الحدود مع لبنان، والجولان السوري المحتل.
ولأن القلق بالقلق يذكر، فإن إيران تشكل القلق الأعظم على مستقبل الاحتلال، والذي تضاعف مع قرْب توصُّل طهران إلى اتفاق في شأن برنامجها النووي مع القوى الغربية، ترى فيه إسرائيل «كارثة استراتيجية». وعلى الرغم من التهديدات المتلاحقة بإمكانية شن عمل عسكري ضد المنشآت النووية في إيران، إلا أن إسرائيل تدرك خطورة ووقْع التهديدات الإيرانية بالرد عليها في عمْقها وبصورة قاتلة. لذلك، حاولت تبديد القلق من تلك المغامرة لدى جمهورها من ناحية، وإظهار قدرتها على مواجهة أي هجوم إيراني محتمل من ناحية أخرى. وفي ضوء تلك التطوّرات، يزداد الفشل الاستخباري الإسرائيلي مع انكشاف العديد من خلايا «الموساد» والتجسس التابعة له في إيران، والتي كان آخرها اعتقال الاستخبارات العامة والأمن القومي في إيران 12 عنصراً من تنظيم بهائي في محافظة مازندران، في شمال البلاد. ويبدو أن حقيقة القلق الأمني الإسرائيلي هو إدراكها أنها غير قادرة على مواجهة إيران منفردة، أو القيام بعمل عسكري ضدها، وهي الحقيقة التي صرح بها رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق شاؤول موفاز لـ«القناة 12»، قائلاً إن «لدى الإيرانيين هدفاً أعلى من إنجاز اتفاق نووي، وهو الوصول إلى برنامج نووي يمنحهم مظلّة من أجل تحقيق هيمنة إقليمية. التوصل إلى اتفاق لا يعني أن الإيرانيين سيكتفون بذلك، فهم أذكياء جداً، وسيلتفون على الاتفاقات، وسيستمرون في التقدُّم في البرنامج النووي»، مستبعداً أن تقوم إسرائيل بعملية عسكرية ضد إيران لأنها ستعني «حرباً إقليمية، وإسرائيل لا يمكنها أن تقوم بذلك وحدها، فهي بحاجة إلى مظلة أميركا ومساعدتها».