«كفى الله الأسرى شرّ الإضراب» الذي كانوا ينوون خوضه بدءاً من أوّل من أمس، وفق ما يقول أسير في سجن نفحة لـ»الأخبار»، بعدما اضطرّت سلطات الاحتلال للتراجُع عن إجراءاتها القمعية الأخيرة خوفاً من أن يؤدّي الإضراب إلى انفجار الأوضاع في الأراضي المحتلّة. ويؤشّر هذا المنجَز إلى ما راكمه الأسرى من خبرات على مدى سنوات الإضرابات الجماعية التي بدأت منذ ستّينيات القرن الماضي، في منازَلة السجّان وإجباره على تقديم التنازلات، في معركة «لا مجال للتنازل فيها» بالنسبة إلى مَن يخوضونها باللحم الحيّ، قاضين بذلك على آخر الخطوط الفاصلة عن الموت
ليس اتّخاذ قرار الإضراب عن الطعام في سجون الاحتلال، بالأمر الهيّن. الأمر لا يرتبط بالقدرة على مكابَدة الجوع، بقدْر ما هو قضاء على آخر الخطوط الفاصلة مع الموت، في بيئة تحتاج إلى ما يشبه «صبر أيوب»، لتحمُّل ظروفها الصعبة، وذلك في حال تَوفّرت كامل الامتيازات التقليدية. والامتيازات هنا، ليست سوى إدخال بعض الخُضر الطازجة مع الوجبات، والإبقاء على التلفزيونات التي لا تعرض سوى 6 قنوات، بالإضافة إلى السماح بالمكالمات الهاتفية وإدخال «الكنتينة» بشكل منتظم.
«لقد كفى الله الأسرى شرّ الإضراب»، يقول الأسير في سجن نفحة، «أبو محمد» (اسم مستعار)، لـ»الأخبار»، مُعلِّقاً بذلك على منجَز «تحصيل الحقوق قبل بدء الإضراب» الذي كان قد عُقد العزم على الشروع به يوم أوّل من أمس، بمشاركة 1000 أسير في المرحلة الأولى، احتجاجاً على جملة الإجراءات العقابية التي فرضتها إدارة السجون منذ سنوات، وضاعفتها عقب حادثة سجن جلبوع في مطلع أيلول 2021. وبحسب «هيئة شؤون الأسرى»، فإن «الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال تمكّنت من الانتصار بتحقيق مطالبها وإلغاء العقوبات، وذلك قبيل ساعات قليلة من البدء في الإضراب المفتوح عن الطعام». وأُعلن عن الاتفاق النهائي بعد جلسة حوار ضمّت «لجنة الطوارئ العليا للإضراب» وإدارة السجون، وانتهت إلى وقْف كلّ العقوبات الإسرائيلية مقابل وقف كلّ خطوات الأسرى، «على أن يبدأ سريان مفعول هذا الاتفاق فوراً، كجملة واحدة غير قابلة للتجزئة».
وكان الأسرى قد صعّدوا من خطواتهم الاحتجاجية اعتراضاً على النقل التعسّفي لأسرى المؤبّدات من الغرف والأقسام والسجون، بشكل دوري. كما شكّل تراجع إدارة السجون عن جملة «التفاهمات» التي تمّت بينها وبينهم في آذار الماضي، وتقضي بوقْف إجراءات التضييق التي فُرضت بعد تمكُّن 6 فلسطينيين من الفرار من «جلبوع» - قبل إعادة اعتقالهم لاحقاً - دافعاً رئيساً لتحرّكاتهم. وردّ الأسرى على تلك الإجراءات بخطوات شملت الامتناع عن الخروج إلى «الفحص الأمني»، وإرجاع وجبات الطعام، بالإضافة إلى ارتداء الزيّ البني (الشاباص)، وإغلاق الأقسام، وحلّ الهيئات التنظيمية. ثمّ كانوا ينوون الإضراب.

الإضراب ليس ترفاً
لا يُعدّ الإضراب عن الطعام خياراً «ترَفياً» للأسرى. هو «إعلان حرب لا مجال للهزيمة فيها»، يقول الأسير «أبو محمد»، مضيفاً: «في العادة، نحن نلتزم بقرار التنظيم الذي ننتمي إليه، ونُواصل معركة الإضراب حتى نهايتها، غير أن اللجوء إلى الإضراب هو خيار اضطراري في نهاية الأمر، إذ يفاضل الأسرى بين الإجراءات العقابية التي يفرضها الاحتلال وتبعاتها على حياتهم اليومية، وبين خوض الإضراب، الذي هو الخطوة الأخيرة التي يُلجأ إليها بعد مفاوضات طويلة». ويتابع: «في العادة، تحدّد قيادة الأسرى شكل الإضراب، وأعداد المطلوب انخراطهم فيه، ثمّ تفتح الباب طوعياً لِمَن يريد الانضمام، علماً أن جميع الأسرى يكونون في حالة جهوزية للانضمام في حال تَقرّرت زيادة الأعداد».
وبدأت فكرة الإضرابات المفتوحة عن الطعام منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، حيث شكّل إضراب سجن الرملة عام 1969 باكورة الإضرابات الجماعية، واستمرّ قرابة 11 يوماً، طالب فيها الأسرى بتحسين الطعام وزيادة كمّيته، وإدخال القرطاسية، وإنهاء إجراء مناداة السجّان بكلمة «حاضر سيدي»، كما إنهاء منع التجمّع لأكثر من أسيرَين في الساحة، وكذلك زيادة وقت الفورة. وإذ انتهى الإضراب المذكور من دون تحقيق أيّ منجزات، فقد نجح الأسرى في العام نفسه في تنظيم إضراب جماعي في معتقَل كفار يونا، بدأ حينها في 18/2/1969 واستمرّ لثمانية أيام، بالتزامن مع آخر في سجن الرملة، نجح فيه الأسرى أيضاً في تحسين بعض ظروفهم، كتغيير الفرشة البلاستيكية التي ينامون عليها، وتحسين كمّية الطعام، وإدخال القرطاسية، وإلغاء جملة «حاضر سيدي» من قاموس السجون. وحتى عام 1980، كان الأسرى قد نفّذوا نحو سبعة إضرابات جماعية، أبرزها في سجن عسقلان عام 1976، حيث استمرّ نحو 45 يوماً، وانتهى بسماح إدارة السجن بإدخال القرطاسية، وتحسين نوعية الطعام، وكمّيته واستبدال الفرشات المهترئة.
تبدأ المفاوضات مع الأسرى بعد أن تستنفد إدارة السجون كلّ إجراءاتها القمعية بحقّهم


بالنسبة إلى الأسرى، فإن الإضراب هو حرب باللحم الحيّ. يحفظ هؤلاء أسماء عدد من رفاقهم الذين قضوا خلال الإضرابات الجماعية، وكان أوّلهم الشهيد الأسير عبد القادر أبو الفحم الذي قضى بتاريخ 11/7/1970 خلال إضراب سجن عسقلان، وراسم حلاوة وعلي الجعفري اللذان استشهدا بتاريخ 24/7/1980 خلال إضراب سجن نفحة، ومحمود فريتخ الذي استشهد على إثر إضراب سجن جنيد عام 1984، وحسين نمر عبيدات الذي استشهد بتاريخ 14/10/1992 في إضراب «عسقلان». وبناءً على تلك التجارب، فإن «الإضراب الناجح، هو الإضراب الأقصر في المدّة الزمنية»، يقول الأسير في سجن نفحة، ويواصل: «كلّما طالت مدّة الإضراب، زادت المخاطر الصحّية للأسرى، وتضاعفت فُرص نجاح الاحتلال في تركيز عمليات القمع لإجهاضه، لذا، فإن من المهمّ أن يستخدم الأسرى أعلى مستويات الضغط لتحقيق مطالبهم في أسرع وقت ممكن».

في مواجهة الإضراب
يعمد الاحتلال، عادةً، إلى جملة من الخطوات لكسْر إضراب الأسرى، تبدأ باقتحام غرف السجن لمصادرة ما تبقّى فيها من طعام. وفي خطوة لاحقة، يبدأ بمصادرة كلّ ما يجده من ملحٍ يستخدمه الأسرى لتعويض الجسم عمّا فقده. يقول «أبو محمد»: «الملح هو عنصر غذائي مهمّ، يستخدمه الأسرى لتعويض الجسم وتطهير الأمعاء، لذا يتعامل معه السجان كسلاح لا بد من مصادرته». ويضيف: «في مرحلة لاحقة، تبدأ إدارة السجون بتسخين المياه التي تصل إلى غرف الأسرى المضربين، لدفع الأسرى إلى كسْر إضرابهم». وحين يُظهر هؤلاء مزيداً من العزم، يُضاعف العدو من خطواته القمعية، سواءً بالاعتداء الجسدي، أو بمصادرة كلّ وسائل التواصل و»الترفيه» الموجودة في الغرف من مِثل التلفزيونات والراديو، فضلاً عن حرمانهم الاتّصال بعائلاتهم. كما تعْمد مصلحة إدارة السجون إلى عزل قيادات الأسرى في سجون منفردة حينما تعجز عن فكّ الإضراب بالوسائل القمعية.

لا مناص من الاتفاق
تبدأ المفاوضات مع الأسرى بعد أن تستنفد إدارة السجون كلّ إجراءاتها القمعية بحقّهم. يقول «أبو محمد» إن «الفارق بين الإضرابات الأولى وإضرابات السنوات الأخيرة، هو مقدار الخبرة التي راكمها الأسرى في تَوقُّع خطوات السجّان وتقدير ردّة فعله، والاستعداد لمختلف السيناريوات (...) لذا، فإن أكثر الإضرابات تنتهي بتحقيق الأهداف، لكن كلمة السرّ في ذلك هي بقاء الأسرى موحّدين، خصوصاً أن العدو يستغلّ الانقسامات الحزبية في محاولة كسْر الإجماع، ويعمل على المفاضلة في الامتيازات الممنوحة للأسرى لتعميق الفرقة».
وتجري المفاوضات في الإضرابات المشتركة بين أربعة ممثّلين عن كلٍّ من «فتح» و»حماس» و»الجهاد» و»الجبهة الشعبية» من جهة، ومصلحة إدارة السجون من جهة أخرى، فيما تحدّد الأخيرة مقدار تنازلاتها بقدْر ما تُبديه قيادة الحركة الأسيرة من صبر وقدرة على مواصلة الإضراب إلى أقصى مدى. ولا تتمّ المفاوضات بالسهولة المتوقّعة، إذ تستغرق وقتاً تتخلّله جولات متتابعة ومشاورات متكرّرة. و»في حال وصلت قيادة الإضراب إلى صيغة تلبّي أهمّ مطالبها، عندها تسمح لها الإدارة بالتواصل مع فصائلها في السجون كافّة، عبر الاتّصال الهاتفي أو من خلال إرسال مندوبين، لإبلاغ الأسرى بالتوصّل إلى اتفاق لإنهاء الإضراب»، كما يوضح «أبو محمد».