غزة | لم يجد المواطنون في مدينة خانيونس وسيلة لصد استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية لمنازلهم سوى أن يشكلوا دروعاً بشرية فوق السطوح. هذا ما فعله الفلسطينيون مع منزل المواطن مهدي كوارع لعل الطائرة الإسرائيلية تتراجع عن استهدافه خشية إيقاع ضحايا من المدنيين. لكن تلك الطائرة التي تمركزت في سماء المدينة لم تعد إلى موقعها إلا بعد تدمير البيت بصاروخين، مخلّفة وراءها مجزرة يندى لها الجبين: سبعة شهداء بينهم أطفال، مرفقة معها رسالة تحذير إلى الغزيين من انتهاج هذه الطريقة للحيلولة دون قصف منازلهم.
هي سياسة قديمة أعادت قوات قوات الاحتلال انتهاجها ضد المدنيين في حربها الجارية على غزة، وفيها يجري استهداف منازل أهالي الناشطين في حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» من أجل الضغط عليهم نفسياً مع تشريد عائلاتهم دون مأوى.
وتفاصيل هذه السياسة أن الاحتلال يتصل بأصحاب المنزل ويطالبهم بضرورة إخلائه خلال عشر دقائق على الأكثر بغية قصفه، ثم يجري تحذيرهم بصاروخ أو ثلاثة صواريخ عبر طائرات الاستطلاع، ومنه يعلم المواطنون أن عليهم إخلاء المنزل أو أن يكونوا عرضة لموت محتم. لكن إسرائيل تجاوزت هذه الطريقة في حرب 2012 وكانت تقصف البيوت من دون سابق إنذار، متعمّدة إيقاع ضحايا من المدنيين. وها هي اليوم تتعامل بالطريقتين، بل تستهدف البيت حتى لو كان على سطحه مواطنون، وهو ما يعيد إلى الذاكرة تدمير منزل القيادي في «حماس» نزار ريان في الحرب الأولى وإيقاع عائلته شهداء.

رأت المقاومة في قصف البيوت تجاوزاً لخط أحمر قررت بناءً عليه توسيع الرد

في ساعات الفجر الأولى من نهار أمس، كان الهدف الأول في هذه الحرب الثالثة منزل المواطن محمود الحشاش الناشط في حركة «حماس»، لتفتتح به قوات الاحتلال أول الطريق في استهداف منازل المواطنين، وهي إلى حين كتابة التقرير دمرت أكثر من عشرة منازل كلياً، فضلاً عن الأضرار الجسيمة التي تلحق بالمنازل المجاورة وتجعلها غير صالحة للسكن.
أحد الذين فقدوا منازلهم هو المواطن محمد أبو دقة (25 عاماً)، وبقي طوال الليل منتظراً بصبر نافد طلوع الفجر كي يتفقد بيته المدمر. على شفا حفرة عميقة باتساع يقارب 100 متر مربع وقف ينظر إلى منزله ويفكر في جدوى استصلاح بعض الأثاث الصالح للاستخدام. يقول أبو دقة وهو يتحسر على «شقا عمره» لـ«الأخبار»: «انظروا إلى ما فعلته إسرائيل المجرمة، لم تستطع أن تنال من رجال مقاومتنا فأتت لتدمر بيوت مدنيين لا حول لهم ولا قوة»، وراح يتابع: «كل ما تريده إسرائيل هو تشريدنا، وتهجيرنا من بيوتنا... لكن هيهات أن تحقق هدفها». أما الطفل عبدالله (10 أعوام) فكان يبحث بين الركام عن دراجته الهوائية، لكنه لم يجدها، فاكتفى بحمل بعض «الطناجر» المحطمة، ثم ابتسم قائلاً: «حاولت ألاقي البسكليت لكن مش عارف وين راح... يمكن انقصف».
وتوقِع هذه السياسة العقابية ضرراً كبيراً على أهالي غزة، في ظل توقف برامج الإعمار لبيوت دمرت منذ حروب وتصعيدات سابقة في ظل أزمات مالية تخنق الناس والجهات الداعمة، وحتى التنظيمات التي عجزت في هذين الشهرين عن توفير رواتب أهالي الشهداء والأسرى والجرحى ليضاف إلى ذلك عبء جديد.
مقابل هذه المعاناة، قررت المقاومة أن ما جرى تجاوز لـ«خط أحمر» وعليه ردّت مباشرة بقصف مدن في فلسطين المحتلة كحيفا التي وصلت إليها الصواريخ أول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، عبر غزة، وكذلك القدس المحتلة وتل أبيب، وهو ما يظهر فعلياً أن إسرائيل تجاوزت خطّاً صعباً قصم ظهر ما تبقى من التهدئة.
وتعقيباً على هذه السياسة، يقول الكاتب حسام الدجني: «إسرائيل تعيش حالة من التخبط بسبب فراغ بنك أهدافها، فلم تجد أمامها سوى استهداف منازل المواطنين أو ناشطي الفصائل للضغط عليهم جميعاً». واستدرك الدجني لـ«الأخبار»: «المزاج العام لمواطني غزة يأتي على عكس ما تريده دولة الاحتلال، فهم يدعمون المقاومة ويعززون صمودها، بل يشكلون ضغطاً شعبياً بضرورة رفض التهدئة من دون تحقيق مطالبهم».
بدوره، يؤكد المحامي والحقوقي، مصطفى إبراهيم، أن قصف منازل المدنيين يخالف القانون الدولي الإنساني، مضيفاً: «رغم زعم إسرائيل تحذيرها المواطنين، فإن القصف بحد ذاته ليس مبرراً، ولعل المجزرة التي ارتكبتها بحق عائلة كوارع تأكيد على أن هدفها قتل الإنسان». وأشار إبراهيم، في حديث مع «الأخبار»، إلى أن الهدف الأكبر من هذه الجريمة هو الحرب النفسية، «لأنها تعلم جيداً أن الأمن والأمان بالنسبة إلى الإنسان مركزيتهما إيجاد مأوى»، داعياً إلى ضرورة تقديم قادة الاحتلال إلى المحاكم الدولية في هذا الشأن.