بعد اشتغالها طويلاً على فرض هيمنتها المطلقة على التشكيلات السورية المعارِضة بشقّيها العسكري والسياسي، يبدو أن ثمّة تراجُعاً نسبياً في سياسات تركيا في هذا الصدد، تُترجمه بعض الإجراءات الهادفة إلى خلْق «توازن صُوري»، يراعي نفوذ بعض المُنافسين الإقليميين، وعلى رأسهم السعودية وقطر. والظاهر أن أنقرة تستهدف من وراء ذلك منْع التشويش على المسار السياسي الجديد الذي تشقّه حيال دمشق، مستعجِلةً جنْي مكاسب سياسية واقتصادية وميدانية باتت أكثر إلحاحاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية التي تبدو مصيرية بالنسبة للرئيس رجب طيب إردوغان
فتحَت الاضطرابات التي شهدها الشمال السوري عقب إعلان أنقرة رغبتها في التطبيع مع دمشق، الباب على تبلوُر مشهد ميداني وسياسي معقّد، أظهر قصور الإجراءات التي قامت بها تركيا لضمان إحكام قبضتها على المعارضة السورية. إذ تَبيّن استمرار حضور أذرع خارجية مُنافِسة في صفوف هذه المعارضة، سواءً عبر العلاقات التي تربط بعض فصائلها بدول عربية معيّنة (أبرزها قطر)، أو التأثير الكبير للسعودية في الهيئات السياسية ذات الصلة، الأمر الذي يبدو أنه دفَع الأتراك إلى إعادة النظر في عدد من إجراءاتهم.
وتَكشف مصادر معارِضة سورية، لـ»الأخبار»، وجود تَوجُّه تركي جديد يقضي بفتح بعض المساحات لتمثيل قوًى كان قد جرى استبعادها، من بينها جماعة «الإخوان المسلمون»، والتي خسرت معظم حضورها في «الائتلاف السوري» المعارِض إثر هيكلته خلال الشهور الماضية، والتي أعقبت آنذاك محاولة قطر إعادة تسلُّم زمام التحكُّم بالمعارضة، عبر مبادرة ترأّسها حينها رئيس الوزراء السوري الأسبق رياض حجاب، وتمكّنت أنقرة من إنهائها قبل أن تُبصر النور. وإذ تُشير المصادر إلى أن التعاون لا يزال مستمراً وكبيراً بين أنقرة والدوحة، التي تموّل عمليات بناء التجمّعات السكّانية لإعادة توطين اللاجئين السوريين ضمن حزام بشري تسعى تركيا لاستثماره للتخلُّص من اللاجئين من جهة، وتجذير حضورها في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا من جهة أخرى، فهي تُبيّن أن التحكُّم التركي المطلق بالمعارضة، ومحاولة استثماره بشكل يخدم المصالح التركية حصراً ولا يراعي مصالح الدول الأخرى التي تملك نفوذاً في صفوف المعارِضين، أشعلا فتيل بعض الخلافات من تحت الطاولة، وهو ما برز بشكل واضح خلال التظاهرات التي خرجت في الشمال السوري خلال الأسابيع الماضية، ورفع بعضها شعارات مناوئة لأنقرة.
وعلى الرغم من الحملات الأمنية المستمرّة التي تشنّها فصائل سورية ضدّ شخصيات وتجمّعات اتُّهمت بـ»إثارة الفتنة والتحريض ضدّ تركيا»، يبدو أن ثمّة قناعة باتت لدى أنقرة بعدم جدوى هذه الحملات في ظلّ استمرار عمليات التحريض الخارجية، الأمر الذي يستلزم إجراءات جديدة بدأت تسلك طريقها إلى التنفيذ. ومن بين تلك الإجراءات الانفتاح بشكل جزئي على «الإخوان»، وإبراز هذا الانفتاح بشرط أن يبقى ضمن قنوات محدَّدة تضْمن عدم قدرة التنظيم على إحداث أيّ تغييرات في القرار السياسي المفروض على أنقرة. ويفسّر ذلك إعلانَ «الائتلاف» إجراء لقاءات مع ممثّلين عن الجماعة المحظورة في سوريا، بالإضافة إلى إعادة تفعيل بعض الهيئات المعطَّلة في جسم «الائتلاف»، مِن مِثل «دائرة دعم التفاوض» التي جرى تجميدها قبل نحو عامين. وبدا لافتاً، أنه ومع إعادة تفعيل هذه الدائرة، جرى تسليم إدارتها لأحمد السيد يوسف، وهو أحد ممثّلي «الإخوان» في «الائتلاف»، بعد أقلّ من شهرين على إعادة تشكيل «هيئة التفاوض» وتسليم رئاستها لبدر جاموس، الذي تتّهمه المعارضة بالتبعيّة لروسيا، علماً أن تصعيد جاموس أعقب حالات تخبّط عديدة عانتها الهيئة خلال العامَين الماضيَين، بعد أن قامت أنقرة بإبعاد الشخصيات المدعومة سعودياً منها.
المقاربة التركية الجديدة تلْحظ الدور السعودي، وضرورة تمثيل الرياض في المسار التفاوضي


على أن المقاربة التركية الجديدة، وفق المصادر السورية المعارِضة، تلْحظ الدور السعودي، وضرورة تمثيل الرياض في المسار التفاوضي، بعد أن تيقّنت أنقرة من فشل مساعيها في الاستئثار بالمشهد السياسي والميداني المرتبط بالمعارَضة. إذ أخفقت «هيئة التفاوض»، حتى الآن، في تحقيق أيّ تقدُّم على الأرض، علماً أنها تَشكّلت أساساً بدعم سعودي، ما يفسّر استعجال جاموس، فوْر تولّيه رئاستها، طرْق باب السعودية، وإعلان حاجة المعارضة إلى الرياض. وفي وقت تفتح فيه إعادة تفعيل «دائرة التفاوض» في «الائتلاف»، وقيادة «الإخوان» لها، الباب أمام احتمال منافَستها «هيئة التفاوض» التي أعادت وصل الخطوط المقطوعة مع السعودية، يمكن نظرةً أوسع أن ترسم معالم المشهد الذي تحاول تركيا إرساءه عبر هذه الخطوات. ذلك أن «دائرة التفاوض» لا تتمتّع، إلى الساعة، بأيّ حضور حقيقي سواءً في مسار «اللجنة الدستورية» أو مسار «أستانا»، فيما لا تزال تركيا تتحكّم بشكل شبه مطلق بعمل «هيئة التفاوض»، الأمر الذي يؤكّد صُورية الإجراءات الأخيرة، والتي يمكن اعتبارها بمثابة بوّابات جانبية لضمان مصالح القوى الداعمة للمعارضة في المسار «الانفتاحي» التركي الجديد على دمشق، وتحويل أذرعها من قوًى مناوئة لهذا المسار تستمرّ في التشويش عليه، إلى شريكة فيه.
وبالإضافة إلى ما تَقدّم، تُهندس تركيا ترتيبات أخرى تتعلّق بإدلب التي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، تهدف إلى إدخال «الهيئة» في السياق الميداني والسياسي ذاته، عبر توحيد مناطق نفوذ أنقرة في الشمال السوري. غير أن هذه الترتيبات لا تزال تواجِه تحدّيات عديدة، أبرزها اندراج «تحرير الشام» ضمن لائحة الإرهاب الدولية، واحتمال مقاومة الفصائل مساعي أبو محمد الجولاني (زعيم الهيئة) إلى السيطرة على مناطق جديدة في ريف حلب. ومن هنا، تسلك تركيا، في هذا الصدد، مساراً متدرّجاً ومتأنّياً، بدءاً من عمليات تلميع الجولاني وجماعته والتي لا تزال مستمرّة، مروراً باستمرار التضييق على الجماعات «الجهادية» المنتشرة في إدلب، وصولاً إلى التخلُّص من الشخصيات غير السورية في صفوف «تحرير الشام». وهنا يَبرز استمرار ظهور زعيم الهيئة في مناسبات اجتماعية عديدة، آخرها افتتاح معرض للفنّ التشكيلي، وإظهاره اهتمامه بالأقلّيات الموجودة في إدلب، واشتغاله على الحدّ من مظاهر التشدّد، وكلّ ما تَقدّم تمهيداً لخطوة توحيد مناطق النفوذ التركي، الأمر الذي يعني، في حال حصوله، تمثيل الهيئات السياسية التابعة للمعارضة (الائتلاف وهيئة التفاوض) لإدلب ضمناً.