تجلس المشكلات البيئة على رصيف الاهتمام في العالم العربي، إذ لا تضع الحكومات تلك القضايا في ذيل أولوياتها، وهي التي تغرق بأزمات اقتصادية وسياسية لم تسعفها حياة أجيال لحلها. بحسب رزان زعيتر، وهي رئيسة الشبكة العربية للسيادة على الغذاء، فإن «الحكومات العربية لا تمتلك قراراً سياسياً مستقلاً، لذا، ليس من الصدفة أن نجد الزراعة، التي هي أوّل ملامح الاستقرار الحضاري والسيادي مهمّشة، لأن ذلك هو النتاج الحقيقي لواقع الإملاءات الخارجية والفساد والمصالح». وترى زعيتر، التي التقت بها «الأخبار»، أن الاستعمار خطط لهدم الاكتفاء الذاتي لدى الدول المستعمَرة وسعي للسيطرة على الغذاء، وذلك ما صرّح به وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر ذات يوم بقوله: «سيطر على النفط إذا أردت السيطرة على الدول، وسيطر على الغذاء إذا أردت السيطرة على الشعوب».تشير الإحصاءات إلى أن العالم العربي يتقدّم دولَ العالم في استيراد الغذاء والسعرات الحرارية، ويتقدّم العالم في التأثّر بأي أزمات دولية.
وتشكّل فلسطين مثالاً صارخاً وحيّاً على هيمنة الاحتلال على الأراضي الزراعية، هناك، يستغل الاحتلال قانوناً قديماً وضعه الاحتلال العثماني لتشجيع السكان على الزراعة، بهدف تحصيل الضرائب منهم، على أن تنقل ملكية الأراضي التي لم يزرعها مالكوها خلال ثلاثة أعوام متواصلة، لسلطات الانتداب، هذا القانون المتقادم، وظّفه الاحتلال الإسرائيلي لسرقة الأراضي الفلسطينية. وشكّل ذلك مدخل زعيتر في مجال حماية البيئة؛ فالاحتلال يمارس دوراً تدميراً ممنهجاً تجاه الزراعة، عبر قلع الأشجار وهدم الأبيار ومنع المياه عن الأراضي الخصبة، إذ وصل معدل اقتلاع الأشجار في إحدى السنوات، إلى شجرة في كل دقيقة.
تذكر زعيتر في السياق ذاته أن «القطاع الزراعي كان مستهدفاً بشكل واضح في الحربين الأخيرتين على غزة. يقصفون مزارع الدجاج والبقر وخلايا النحل وخزانات المياه، هناك حملة ممنهجة على الغذاء». استهداف تحرص عليه إسرائيل، على الرغم من أنه يكلفها موازنات عسكرية كبيرة، ففي أحيان كثيرة، تتجاوز تكلفة إقلاع الطائرات الحربية والقنابل المستخدمة، قيمة ما هو مزروع في الأرض المستهدفة. توضح زعيتر أن العدو يرى أنه «بحال تضاعفت القدرة على الإنتاج الذاتي للغذاء في غزة، فإن ذلك يزيد من استقرار بيئة المقاومة واستقلاليتها وبالتالي زيادة صلابتها وصمودها».
من هنا بدأت «الجمعية العربية لحماية الطبيعة» التي تترأسها زعتير بدعم القطاع الزراعي في الأراضي الفلسطينية. ونظمت في هذا السياق «حملة المليون شجرة»، التي بدأت عام 2001، واستهدفت بالدرجة الأولى المنطقة (ج) غير المزروعة من الضفة الغربية، وذلك منعاً لمصادرتها بحسب القانون الإسرائيلي.
تخطى عدد الأشجار المزروعة في الأراضي الفلسطينية الثلاثة ملايين شجرة في هذا البرنامج، لكن هذا الإنجاز اعترضته كثير من الصعوبات، فالعمل في هذه المناطق طارد للممولين الدوليين، لذا اعتمد البرنامج على تمويل الجمعيات المحلية. ذلك إضافة إلى سيطرة إسرائيلية على الموارد الأساسية، والحد من كمية المياه الممكن استخدامها من قبل الفلسطينيين، فبحسب «منظمة العفو الدولية» فإن الإسرائيلي يحصل على 4 أضعاف كمية المياه التي يحصل عليها الفلسطيني.
في المقابل، ثمة تضييق كبير تمارسه المنظمات الصهيونية التي واجهت الحملة عبر جمع سبعة ملايين دولار من المتبرعين الصهاينة لإجهاضها، تقول زعيتر: «الجانب الإسرائيلي أرسل تأنيباً للحكومة الأردنية بسبب عمل الجمعية. وهذا دليل أن أعمالنا تخيفهم، وليست مجرد زراعة أشجار، لذلك أصبحنا نسمي أنفسنا المقاومة الخضراء». تواصل: «هذه المشاريع تتضمن شبكات ري وشبكات صيد وخلايا نحل ومزارع دواجن، إضافة إلى استفادة آلاف المزارعين».
ويكمن الخطر في أن عدم الاستفادة من الأراضي الزراعية والموارد الطبيعية، يزيد من فرص سيطرة الاحتلال على كل منابع المياه الموجودة في تلك المناطق المهجورة، فيما تمثّل أراضي غور الأردن 25% من المخزون المائي، كما أن الأردنيين لن يكونوا بمنأى عن انعكاسات الخطوات الإسرائيلية، فغور الأردن يشكل السلة الغذائية للبلاد، وتشهد أراضيه، بحسب زعيتر، «تسريباً للأراضي وصفقات بيع مشبوهة مع غياب الرقابة الحكومية والدعم»، ناهيك عن الاستهداف الإسرائيلي لهذه الأراضي عبر الحرائق المفتعلة.
تعتبر زعيتر أن السيادة على الغذاء مفهوم سياسي قبل أن يكون اقتصادياً، وهو سلاح يمكن أن يستخدمه الفلسطيني بشكل فعّال في صراعه مع العدو، لكن السلطة الفلسطينية التي «تستورد 95% من حاجتها من القمح»، أبعد ما تكون عن ممارسة هذا الدور.
في خلاصة الأمر، تعمل الجمعية العربية بلحمها الحي، فهي لا تقبل التمويل الأوروبي، لأنها تجد أن التمويل هو واحد من أدوات الاستعمار المستخدمة في تدجين وعي السكان وتطبيق البرامج التي تتناغم مع هوى الممول ثقافياً واجتماعياً، بمعزل عما يحتاجه السكان لدعم صمودهم وتمكين اقتصادهم.