غزة | لم يجد الحاج حسن شملخ بين أنقاض منزله المدمَّر ما يَصلح للاستخدام، فقد أتى الطيران الحربي الإسرائيلي على البيت الذي كانت تسْكنه عائلته المكوَّنة من اثني عشر شخصاً، ليُضحي هو وأُسرته بلا مأوى. يقول شملخ، لـ«الأخبار»: «نحن عائلة مدنية، لا صلة لنا بأيّ عمل مقاوم، وقد جاء قصف منزلنا من دون أيّ سابق إنذار أو تَوقُّع (...) انضممْتُ اليوم إلى قوائم البيوت التي تنتظر إعادة الإعمار، ولسنا ندري في أيّ صيف أو شتاء سنباشر أعمال البناء». وبحسب وزارة الأشغال العامّة والإسكان في غزة، فإن التصعيد الإسرائيلي الأخير الذي استمرّ أقلّ من ثلاثة أيام، تسبّب بتدمير 22 وحدة سكنية كلّياً، و77 جزئياً، ما جعلها غير صالحة للسكن، فيما تعرّضت 1908 وحدات لأضرار جزئية وبليغة، لكنّها ما زالت صالحة للسكن.ويسعى الاحتلال، خلال كلّ الحروب والمعارك في ما بينها، إلى تدمير أكبر قدْر من بيوت المدنيين والبنى التحتية، وذلك بهدف «رفْع كلفة المقاومة، عبر الضغط على حاضنتها الشعبية، وصولاً إلى تعقيد حسابات الدخول في أيّ جولات قتالية لاحقة»، بحسب ما يقول الباحث السياسي، محمد السيد، لـ«الأخبار». ويَلفت السيد إلى أن «العدو قصف في حرب عام 2014 أحياء بأكملها من دون داعٍ عسكري أو أمني، كما دمّر أبراجاً سكنية وشركات تجارية ومصانع، بهدف كيّ وعي سكّان القطاع، ودفعْهم إلى التصويب على المقاومة بوصفها المسؤولة عن الدمار والخراب». ويضيف: «كان ملاحَظاً أيضاً أن كبرى المجازر في رفح والشجاعية والتفاح وبيت حانون، ارتكبها جيش الاحتلال على نحو عشوائي وانتقامي، عندما مُني بخسائر بشرية وعسكرية أو نُفّذت ضدّه عمليات أسر جنود»، متابعاً أن «ورقة تدمير الأبراج السكنية لوّح بها العدو أيضاً في نهاية حرب عام 2014، عندما قرّر وقف المعركة، وقد وضعها على الطاولة للتهديد بها في أيّ معركة مقبلة، وكان ذلك ملاحَظاً في سيف القدس عندما بدأ العدو الحرب بقصف الأبراج السكنية». وفي «وحدة الساحات» أيضاً، مارس الاحتلال السلوك نفسه، على رغم قِصر المعركة.

وتيرة إعمار أسرع
بعد تأخير استمرّ قرابة عام كامل، بدأ المواطن محمد شحادة ببناء منزله الذي هدّمته الطائرات الإسرائيلية خلال معركة «سيف القدس». كما شرع العشرات من أصحاب البيوت المدمَّرة في إعادة تشييد بيوتهم خلال الشهرَين الماضيَين. ووفقاً لشحادة، فإنه «في الشهور التي سبقت البدء الفعلي في البناء، كانت جميع الخرائط والتراخيص اللازمة جاهزة، غير أن صرْف الدفعة المالية الأولى تأخَّر لأسباب مجهولة». ودفَع ذلك المئات من المتضرّرين إلى تنظيم فعّاليات احتجاجية مقابل مقرّ «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، لتُعلِن الوكالة، إثر تلك التحرّكات، في شهر أيار الماضي، صرْف الدفعة الأولى لـ100 منزل، علماً أن دفعات البناء تُصرف على ثلاث مراحل؛ الأولى قبل بدء وضع خرسانة القواعد الخاصة بالمنازل، والثانية خلال عملية التشييد، والثالثة قبل بدء أعمال التشطيب.
وتُصرف الأموال عادةً من قِبَل المنظّمات الدولية مِن مِثل «الأونروا» التي تكون قد تلقّت المبالغ من دول غربية، أو من خلال «اللجنة القطرية لإعمار غزة». وكانت الأولى أعلنت، مطلع الشهر الجاري، البدء بإعادة إعمار 364 منزلاً دُمّرت خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع في أيار 2021. وأفادت، في بيان آنذاك، بأنه سيتمّ إدراج حوالي 100 حالة جديدة تنطبق عليها الشروط اللازمة، ما سيشكّل، إضافة إلى الحالات السابقة، ما نسبته 74% من قوائم «الأونروا» للمنازل المهدَّمة كلّياً. كما أعلنت الوكالة الانتهاء من دفع بدل الإصلاحات لِما يزيد عن 7000 عائلة في أنحاء غزة. وبحسب تَوقُّع مصدر في «الأونروا»، فإن الوتيرة الحالية تشير إلى أن اكتمال عملية إعادة إعمار الوحدات السكنية المدمَّرة في «سيف القدس»، سيكون في نهاية شهر آذار من العام المقبل، علماً أن عدوان العام الماضي تَسبّب بتدمير 1400 وحدة سكنية بشكل كلّي، و880 بشكل بليغ، و55600 بشكل جزئي متوسّط وطفيف.
لم تَقُم أيٌّ من الجهات المانحة بالإعلان عن تكفّلها بإعادة إعمار الأبراج حتى اللحظة


ماذا عن ما دُمِّر سابقاً؟
على رغم التقدُّم الحاصل في عمليات الإعمار حالياً، إلّا أن ملفّ المنازل التي دُمّرت في الهجمات والحروب السابقة على حرب 2021، لا يزال عالقاً، وذلك بسبب عدم توفُّر أموال الدعم اللازمة من المانحين. وفي هذا الإطار، أشار وكيل وزارة الأشغال في غزة، ناجي سرحان، إلى أن «الوزارة ما زالت تستكمل جهود إعادة إعمار قطاع الإسكان المتضرِّر كلّياً وجزئياً خلال الاعتداءات السابقة، والتي لم يتمّ الانتهاء منها حتى الآن». وكشف سرحان، في تصريحات صحافية، «(أننا) نُخبر المانح بأن يقوم بتمويل ما تمّ تدميره قبل عام 2021 فيرفض، ويشترط أنه في حال تسجيل فائض في أموال إعمار ما بعد 2021، يتمّ منْحها لما قبْله». وتشير إحصائيات «الأشغال» إلى أن ثمّة ما يقارب 1300 وحدة سكنية مهدومة كلّياً متبقّية من الحروب والهجمات السابقة، ولم يتوفّر تمويل لإعادة إعمارها حتى الآن، وتُقدَّر تكلفتها بقرابة 56 مليون دولار، بالإضافة إلى تعويضات الأضرار الجزئية السكنية والتي تناهِز حوالي 94 مليون دولار، وتعويضات أضرار القطاع الاقتصادي الصناعي والتجاري والزراعي وباقي القطاعات الأخرى والتي تُقارب عتبة 600 مليون دولار. وكان المانحون تعهّدوا بتقديم 5 مليارات دولار بعد عدوان 2014، وتمّ وضع خطّة وطنية للإعمار بتكلفة 3.9 مليارات دولار، غير أن ما قُدِّم فعلياً لم يتجاوز هامش الـ900 مليون دولار. وبدأت مصر، فعلياً، عمليات الإعمار عقب العدوان الذي تعرّض له القطاع في أيار 2021، والذي قُدّرت خسائره بـ570 مليون دولار، لكن تصريحات المسؤولين في غزة تؤكد عدم وفاء غالبية المانحين بتعهّداتهم.

الأبراج خارج الحسابات
وسط تسارع وتيرة إعمار ما دُمّر في عام 2021، وتقديم الحكومة القطرية وعوداً بإعمار ما دُمّر في عام 2022، يظلّ ملف الأبراج المهدّمة عالقاً، حيث لم تَقُم أيٌّ من الجهات المانحة بالإعلان عن تكفّلها بإعادة إعمارها حتى اللحظة. وبينما أعلنت قطر، من خلال سفيرها محمد العمادي، تَكفُّلها بتشييد «برج الجلاء» الذي كان مقرّاً لقناة «الجزيرة»، والذي سيحمل اسم الشهيدة شيرين أبو عاقلة، تنتظر سبعة أبراج أخرى دُمّرت في عام 2021 وخمسة في عام 2014 دورها، الذي لا يحمل الأفق أيّ أملٍ في حلوله قريباً، علماً أن تلك الأبراج كانت تضمّ أكثر من 425 منزلاً سكنياً، من بين 1700 وحدة يُصنَّف بعضها على أنها مكاتب لشركات تجارية.



«الجهاد» تُواسي حاضنتها
على رغم أن ملفّ إعادة الإعمار يُعدّ أكبر من إمكانات فصائل المقاومة، ويتولّاه المانحون الدوليون عادة، إلّا أن ثمّة دوراً «أخلاقياً تقوم به الأحزاب عادةً»، يتمثّل وفق ما يوضحه مصدر في اللجنة الاجتماعية لحركة «الجهاد الإسلامي»، لـ«الأخبار»، في «تقديم إغاثات مادّية عاجلة تُصرَف في أعقاب وقوع الحدث مباشرة، كي لا ينام الأهالي في العراء، وتتمثّل في الأغطية والملابس وبعض الأجهزة الضرورية إلى حين بدء المؤسّسات الدولية القيام بدورها الذي يتطلّب إجراءات تمتدّ إلى أيام أو أسابيع». وهذا ما تَكرّر عقب جولة «وحدة الساحات»، التي كان واحد من أهمّ أهدافها تدمير علاقة «الجهاد» بحاضنتها الشعبية، ولذا بدأت إجراءات إجهاض الطموح الإسرائيلي فور وقف إطلاق النار. ومن هنا، يقول المصدر المذكور: «انطلقنا مباشرة بعد وقف إطلاق النار في مسيرات عرفان ومواساة لعائلات الشهداء، ثمّ في صبيحة اليوم التالي، عملت طواقم الحركة وكوادرها على إحصاء كلّ الجرحى والشهداء، ولم تغِب شمس ذلك اليوم، حتى أمَّنّا مَن هُدم منزله كلياً». ويضيف: «قمْنا بزيارة كل أسر الشهداء، وقدّمْنا واجب المؤازرة ومكرمة مالية، كما أحصينا كلّ مَن أُصيب، وقدّمنا مكرمات مادية تناسبت مع حدّة الإصابة وما يمكن أن تحتاج إليه من متطلّبات. فضلاً عن ذلك، تكفّلنا بدفع ثمن الأدوية والعلاجات، فيما كانت طواقمنا تقدّم تعويضات لِمَن تَضرّر منزله جزئياً، وتُوفّر بدلات إيجار ومصاريف حياتية لمَن هُدم بيته كلّياً». بدوره، أشار أبو عبيدة، وهو عضو «هيئة إقليم شمال غزة» في «الجهاد»، إلى «(أننا) زرْنا الأسر التي مارس الإعلام المعادي ومؤسّسات المجتمع المدني دوراً لافتاً في التأثير عليها لإظهار موقف معادٍ للمقاومة، بتهمة أن صواريخنا هي مَن تسبّبت بمقتل أبنائها، ولم نجد منها إلّا استقبالاً محترَماً ومواقف مشرِّفة». ولفت إلى «(أننا) ذهبْنا لزيارة الشهداء من عائلة نجم، حيث روى لنا والد الشهداء أن إحدى الشخصيات الاعتبارية زارتهم وحرّضتهم على تقديم شكوى ضدّ سرايا القدس إلى المنظّمات الدولية لأن صواريخها تَسبّبت بمقتل أطفاله، «فما كان مِنّا إلّا أن طردناها، وقلنا لها إنْ كرّرتِ ما قلت، فإنّنا سنشتكيك للأجهزة الأمنية بتهمة العمالة» كما نقل الوالد».