بغداد | باحتلال أنصاره محيط مبنى مجلس القضاء الأعلى في العراق أمس، وما تلى ذلك من إعلان السلطة القضائية تعليق عملها، يكون مقتدى الصدر قد عطّل آخر مؤسّسة يمكن الاحتكام إليها لفضّ المنازعات. ويأتي هذا على رغم أن التهمة التي ساقها المعتصمون ضدّ القضاء، وهي الانحياز إلى الطرف الآخر، يَدحضها تثبيت المؤسّسة المستهدَفة نفسها مكاسب «التيّار الصدري» في الانتخابات التي أجريت في تشرين الأوّل الماضي، والتي لولاها لما استطاع القول إن تمثيله الشعبي يتفوّق على تمثيل خصومه في «الإطار التنسيقي». على أن رد الفعل الساخط الذي قوبل به تحرّك «الصدريين»، حتى من قِبَل حلفائهم السابقين في البرلمان، دفع التيّار مساءً إلى توجيه مُحازبيه بالانسحاب من مقرّ «القضاء الأعلى» حفاظاً على «سمعة الثوار»، وتجنّباً لـ«تضرّر الشعب»، فيما أعلن المجلس استئناف العمل في المحاكم كافة اعتباراً من اليوم
بعد انسحابه من العملية السياسية، واستقالة نوّاب كتلته من البرلمان، ثم شل عمل مجلس النواب عبر اقتحامه والاعتصام في داخله، جاء اعتصام أنصار زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، في محيط مقرّ مجلس القضاء الأعلى الذي رَفض قبل أيام دعوى رفعها الأخير للمطالبة بحلّ البرلمان، ليُعطّل آخر المؤسّسات الدستورية وأهمّها، ويَفتح الباب على انفلات الأمور من عقالها في الشارع. وبذلك، وضع الصدر نفسه في كفّة، وكلّ القوى الأخرى التي تريد التوصّل إلى تسوية للنزاع في كفّة أخرى، ما دفع برئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي إلى قطع زيارته لمصر والعودة إلى بغداد، حيث حذّر من أن تعطيل عمل المؤسّسة القضائية يُعرّض البلد لمخاطر حقيقية، داعياً إلى اجتماع فوري لقيادات القوى السياسية من أجل تفعيل إجراءات الحوار الوطني ونزع فتيل الأزمة. أيضاً، أبدى رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، الذي كان شريكاً للصدر في التحالف الثُلاثي، امتعاضه من الاعتصام، قائلاً: «للأسف، ما وصلنا إليه اليوم هو تراجُع أكثر مِمّا كُنّا عليه سابقاً، من خلال تعطيل المؤسّسات الدستورية. فمجلس النواب معطّل، ومجلس القضاء معطّل، ولدينا حكومة تسيير أعمال». وكان الصدر قد جرّب استخدام الشارع بصور متعدّدة خلال الأسابيع القليلة الماضية، إلا أنه لم يحقّق من خلاله أيّ مكسب يمكن أن يترجَم في السياسة، وبخاصة بعد نزول جماهير «الإطار التنسيقي» بدورها إلى ساحات التظاهر. وعلى رغم أن الشارعَين تحلّيا بالهدوء حتى الآن بسبب حرص قيادتَيهما على تجنُّب الانزلاق إلى اقتتال شيعي - شيعي، إلا أنه لا شيء يضْمن بقاء الأمور تحت السيطرة، وبخاصة بعد تعطيل كلّ المؤسسات، وفي ظلّ امتلاك كلا الطرفَين فصائل مسلّحة، فضلاً عن أن التصعيد الأخير من قِبَل أنصار الصدر، ربّما يستدعي خطوة مقابِلة من «التنسيقي»، مثلما حصل بعد اقتحام «الصدريين» البرلمان.
رأى «التنسيقي» أنّ ما حدث انقلاب على العملية السياسية


وعن تبريرات الاعتصام حول مقرّ مجلس القضاء الأعلى، يقول الباحث في الشأن السياسي هاشم الشماع، القريب من «التيار الصدري»، لـ«الأخبار»، إن «القضاء هو إحدى السلطات المستقلّة في أيّ بلد، لا يتأثّر بالضغوط الخارجية أو الداخلية، لكنّ الصدريين يرون أن القضاء بحاجة ماسّة إلى إصلاح، كونه منحازاً إلى جهات سياسية، ويتأثّر بالضغوط عليه من قِبَل شخصيات سياسية نافذة، وهذا يُفقده الاستقلالية والحياد، كما أنه لم يحسم عدداً من ملفّات الفساد التي رُفعت إليه ضدّ فاسدين في السلطة»، مضيفاً إنه «يوم (أول من) أمس، كان لرئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان لقاء مع صحافيين وإعلاميين قال خلاله إن القضاء يقف على مسافة واحدة من الجميع، وهذا ما يشكّك فيه الصدريون وعدد كبير من العراقيين»، متابعاً أن «الاعتصام جاء استجابة لتغريدة أطلقها وزير القائد صالح محمد العراقي، الذي يستقي الصدريون توجيهات قائدهم منه، وجاء فيها أن هناك من يدّعي أنه على مسافة واحدة من الجميع، والجواب: القوم في السرّ غير القوم في العلن». ويرى الشماع أن «الاعتصام ليست له علاقة بالخطة التالية التي تحدّث عنها السيد مقتدى الصدر، إثر تجاهُل الإطار التنسيقي موضوع المناظرة العلنية، كما لا علاقة له بالدعوى المُقامة من قِبَل التيار الصدري أمام المحكمة الاتحادية لحلّ مجلس النواب»، مُتوقّعاً «اتّساع هذا التحرّك، ومبادرة الإطار إلى خطوة مماثلة مضادّة، الأمر الذي يوجب على الأجهزة الأمنية التابعة للدولة أن تكون حاضرة وبقوّة تحسُّباً لأيّ تصادم محتمل، لأن أيّ تصادم سيجرّ البلد إلى نقطة اللاعودة».
ويرى الباحث أن «جميع المبادرات السياسية لحلّ الأزمة القائمة في البلد نفدت بسبب عناد الإطار التنسيقي، كونه حالياً في موقع المسؤولية بعد انسحاب التيّار الصدري من مجلس النواب»، لافتاً إلى أن «الصدريين يرون أن هذا البرلمان لم يَعُد ممثِّلاً للشعب العراقي، وبات عاجزاً عن القيام بمهامه الدستورية، ولا يستطيع أن ينتج حكومة»، مضيفاً إن «الصدريين اليوم يمثّلون نبض الغالبية الصامتة في مطالبها العامة، والاعتصامات ستتّسع بشكل كبير في عموم العراق ومؤسّسات الدولة، والإطار ما زال يتحدّث عن عقد جلسة وتشكيل حكومة وحماية المؤسّسات والدستور، في الوقت الذي انتُهك فيه الدستور عشرات المرّات ولم ينبرِ أحد للدفاع عنه في السنوات السابقة». ويعتقد أن «الحديث عن المناظرة حُسم أمره بعدما امتنع قادة الإطار التنسيقي عن التجاوب معها، فلا مناظرة علنية في المستقبل»، متابعاً أن «الصدر سَجّل هدفاً مهمّاً في مرمى الإطار بعدما طالب بالمناظرة العلنية لكي يطّلع الشعب على الأمور المخفيّة، ويكون شاهداً على ما يجري، وهو ما عزّز موقف الصدر في الشارع العراقي».
في المقابل، يصف القيادي في «الإطار التنسيقي»، جبار المعموري، تَحرّك «سرايا السلام» التابعة للصدر «لتطويق القضاء العراقي والاعتصام أمامه وعزل آخر مؤسّسة دستورية تستطيع أن تعمل وأن تُحقّق»، بأنه «انقلاب على العملية السياسية ومؤسّساتها الدستورية»، داعياً إلى مواجهة من سمّاهم «الانقلابيين» بتهمة «الخيانة العظمى، ومنهم المنتهي الصلاحية، الكاظمي، لعدم تصدّيه لهم، والسماح لهم بالدخول إلى القضاء العراقي». ويَلفت إلى أن «القضاء هو المؤسّسة الثانية التي تحاصَر بعد السلطة التشريعية التي حطّموها من الداخل»، مطالِباً بالتصدّي لذلك بـ«الردع من الحكومة أو مَن ينوب عنها، وتحرير المؤسّسات التشريعية من سيطرة الانقلابيين». وكان «التنسيقي» قد دان، في بيان، «التجاوزات الخطيرة على المؤسّسة القضائية»، رافضاً «تلقّي أيّ رسالة من التيار الصدري أو دعوة إلى الحوار، قبل تَراجعه عن احتلال المؤسّسات»، مُحمّلاً الحكومة «المسؤولية عن الحفاظ على ممتلكات الدولة وسلامة الموظفين والمسؤولين».