توَّج رجب طيب إردوغان، أمس، سلسلة التصريحات التي أطلقها مسؤولو بلاده حول الانفتاح على دمشق، بجُرعة غزَل علَني للحكومة السورية، مؤكداً أن «لا مطامع لنا في سوريا»، وأن «هدفنا إحلال السلام وحماية أمننا». تصريحاتٌ ربّما تنمّ عن تقدّم فعلي على مسار التطبيع بين البلدَين، على رغم أن المصادر السورية المسؤولة لا تزال تبدي حذراً وتَشكّكاً، مُجدّدة تمسكّها بالشروط المعلَنة لاستعادة العلاقات. وفي انتظار ما سيؤول إليه هذا المسار في المرحلة المقبلة، يدور الحديث عن جملة سيناريوات يمكن أن تشكّل بوّابة للحلّ، على رأسها توسيع دائرة المصالحات بما يتيح إعادة العدد الأكبر من اللاجئين، وإدخال تعديلات على «اتفاقية أضنة» على نحوٍ يسمح بخروج القوّات التركية تدريجاً، وإبعاد ما تدْعوه أنقرة «الخطر الكردي» عن الحدود. على خطّ موازٍ، تُواصل تركيا تعزيز مسار التطبيع بينها وبين إسرائيل، مُتوِّجةً إياه بقرار تبادل السفراء، والذي لا يُخرجه المراقبون الأتراك من سياق التحوّلات التي بدأت تطرأ على سياسات بلادهم الخارجية منذ فترة، مُعيدةً إيّاها إلى مربّع "تصفير المشكلات" والاستثمار في الديبلوماسية. وإذا صحّت التوقعات بعودة المياه إلى مجاريها بين أنقرة ودمشق، فسيَصدق وصْف الكاتب التركي، محمد علي برلاس، لإردوغان بأنه وحده مَن يقدر على الرقص مع سوريا وإسرائيل في الآن نفسه
أطلق الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، خلال عودته من مدينة لفيف الأوكرانية، تصريحات جديدة أكد من خلالها استمرار الخطوات «الانفتاحية» على دمشق، التي باتت أنقرة على يقين بضرورة التواصل معها لحلحلة المشكلات العالقة على الشريط الحدودي، بالإضافة إلى ما بات يمثّله اللاجئون السوريون في تركيا من أزمة، يستعجل إردوغان معالجتها قبيل الانتخابات الرئاسية. وجدّد الرئيس التركي تأكيده عدم وجود «مطامع» لبلاده في سوريا، مبدياً رغبة بلاده في أن تقوم بدور في «دفْع عملية السلام» في الجارة الجنوبية. وشدّد على ضرورة «الإقدام على خطوات متقدّمة مع سوريا... لا يمكن أبداً قطْع الحوار السياسي أو الدبلوماسي بين الدول، وطالما كنّا جزءاً من الحلّ، هدفنا السلام الإقليمي وحماية بلدنا من التهديدات الخطيرة للأزمة»، مُعيداً التذكير بالنقطة التوافقية الأبرز بين دمشق وأنقرة، والتي تبني عليها روسيا وإيران جهودهما، والمتعلّقة بالرفض المشترك للوجود الأميركي في سوريا، وقائلاً إن «الولايات المتحدة وقوات التحالف تغذّي الإرهاب في سوريا بشكل أساسي، وذلك من دون هوادة».
تصريحات إردوغان، والتي تأتي استكمالاً لسلسلة مواقف أطلقها مسؤولون أتراك خلال الأسبوعَين الماضيَين في الاتّجاه نفسه، تنمّ ربّما عن وجود تقدّم على مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق، والذي توقّعت مصادر سورية مسؤولة، تحدّثت إلى «الأخبار»، أن يشكّل أحد أبرز محاور اللقاء المزمع عقده بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ونظيره السوري فيصل المقداد، في موسكو، الثلاثاء المقبل. وأعادت المصادر التذكير بموقف سوريا المعلَن تجاه الانفتاح على تركيا، والمتمثّل في وقْف الأخيرة «دعم الإرهاب»، وإخراج قوّاتها من الأراضي السورية، مؤكّدة أن «هذه المواقف ثابتة وراسخة، وأن تركيا على علم بها»، ومُنبّهةَ إلى أن «أيّ تطوّر في العلاقات بين البلدَين لن يكون من تحت الطاولة، وإنّما بشكل معلَن يتضمّن خطوات واضحة».
لا يزال طريق التطبيع بين دمشق وأنقرة طويلاً، ويتخلّله الكثير من المعوّقات


ولا يشذّ هذا الموقف عن سياسة دمشق، التي ترحّب بإعادة العلاقات مع الدول كافّة، بما فيها تلك التي كانت طرفاً في الحرب، وعلى رأسها دول الخليج. غير أنها تَنظر إلى الجارة الشمالية بكثير من الحذر، لاعتبارات عديدة؛ أبرزها المحاولات التركية التي رافقت بداية الأحداث لإدخال تغيير على شكل السلطة في سوريا، عبر الطلب إلى دمشق، من خلال وزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، ضمان مشاركة «الإخوان المسلمين» في السلطة مقابل وقف أنقرة دعمها للمعارضة، وهو ما رفضته سوريا بشكل قاطع، ليتحوّل الموقف التركي بعدها إلى العداء الكامل. أيضاً، تمثّل عمليات التتريك في المناطق التي تسيطر عليها أنقرة في الشمال السوري إحدى نقاط الخلاف، شأنها شأن عمليات التغيير الديموغرافي، ومشاريع تشييد مدن صغيرة لتشكيل حزام بشري قرب الحدود التركية، فضلاً عن ملفّ التشكيلات العسكرية التي تدعمها تركيا، وملفّ إدلب المعقّد. تُضاف إلى ما تَقدّم النظرة المختلفة إلى المسألة الكردية؛ فبينما تَنظر أنقرة إلى الأكراد على أنهم أعداء يجب القضاء عليهم، تَرى دمشق أن المشكلة تكمن حصْراً في المشروع الانفصالي المدعوم أميركياً. كذلك، ثمّة اختلاف في الرؤية حول الحلّ في سوريا؛ ففيما تشارك دمشق في مسارَي «أستانا» و«اللجنة الدستورية»، لا تزال تبدي ريبة إزاء التشكيل السياسي الممثِّل للمعارضة (الائتلاف السوري)، والذي تتحكّم به تركيا بشكل كامل، وتخشى السلطات السورية من أن يمثّل بوابة أخرى لـ«التوغّل» التركي مستقبلاً.
وسط هذه المطبّات العديدة، يدور في الأوساط السياسية السورية الحديث عن سيناريوات عديدة يمكن أن يتمّ التوافق عليها، من بينها توسيع دائرة المصالحات التي أظهرت نتائج مقبولة حتى الآن، ومن الممكن أن تشكّل بوّابة لإعادة قسم لا بأس به من اللاجئين السوريين قرب الحدود التركية؛ فضلاً عن رفع وتيرة الضغوط السورية - التركية - الروسية - الإيرانية على الوجود الأميركي في سوريا، بما يمهّد لإنهائه، وإيجاد حلّ لأزمة شرق الفرات. ويترافق الغزل التركي المستمرّ تجاه دمشق، مع ارتفاع ملحوظ في وتيرة الاحتكاكات بين «قسد» والجيش التركي، والتي تخلّلها أيضاً استهداف لأحد مواقع الجيش السوري، سارعت أنقرة إلى امتصاص وقْعه، ما أسهم في إعادة الهدوء النسبي إلى الميدان، وإبقاء التفاؤل بمسار الانفتاح قائماً، وخصوصاً مع استمرار انتشار الجيش السوري في مناطق تسيطر عليها «قسد» في الشمال والشمال الشرقي. والظاهر أن ثمّة تفهّماً سورياً لصعوبة انسحاب القوات التركية بشكل سريع ودفعة واحدة، من دون اتّخاذ خطوات موازية، الأمر الذي يفسّر الحديث عن تعديلات تجري دراستها على «اتفاقية أضنة» الأمنية المُوقَّعة بين سوريا وتركيا عام 1998، بما يتيح وضع جدول زمني واضح، مقرون بتحرّكات سياسية وميدانية، لخروج القوات التركية، بالتزامن مع سيطرة دمشق على الشريط الحدودي والمعابر بشكل كامل.
بالنتيجة، لا يزال طريق التطبيع بين دمشق وأنقرة طويلاً، ويتخلّله الكثير من المعوّقات، في ظلّ التحرّكات الأميركية المستمرّة لإفشاله. غير أن الرغبة التركية في تحقيق انفراجات سياسية وميدانية قبيل الانتخابات الرئاسية، ومحاولات أنقرة العودة إلى سياسة «صفر مشاكل» للاستفادة من مشاريع غازيّة ترغب في أن تؤدي فيها دوراً محورياً، بالإضافة إلى القناعة التي يبدو أنها باتت راسخة لديها باستحالة الوصول إلى تسويات فعّالة من دون التعاون مع الحكومة السورية، كلّها عوامل يمكن النظر إليها على أنها دوافع لانفتاح مدروس ومتأنِّ بين الجارتَين، وفق التزامات وتعهّدات مجدولة، لا تزال قيد الحوار والنقاش.