لعبت مصر، تاريخياً، من خلال أجهزتها الأمنية، دور الوسيط بين إسرائيل وفصائل المقاومة في قطاع غزة، إذ لا يكاد توتّر عسكري يندلع في القطاع، حتى تُسارع القاهرة إلى البدء باتّصالاتها بين الأطراف كافّة للتوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار، مستمِدّة في ذلك دعماً من الولايات المتحدة و«المجتمع الدولي» والدول العربية، ما جعلها على مدار السنوات الماضية مُتعهِّدةَ هذا الملفّ، الذي يضمن لها ورقة لِلَعب دورٍ في الإقليم. وكان من الملاحظ، خلال كلّ الوساطات التي قادتها مصر وأفضت إلى اتّفاقيات تهدئة، افتقاد المصريين القوّة التي يستطيعون من خلالها إلزام إسرائيل بتنفيذ ما يجري التوافق عليه، في مُقابل تسليطهم الضغط على الطرف الفلسطيني. وطالما ولّد هذا الواقع انتقادات شعبية فلسطينية، خاصة حينما تستغلّ إسرائيل حالات التوسّط تلك لتنفيذ عمليات اغتيال أو بدء هجمات عسكرية، كما جرى في عملية اغتيال القيادي في «سرايا القدس»، تيسير الجعبري، بداية العدوان الأخير، والتي جاءت في ظلّ التقدُّم في الاتّصالات التي قادتها القاهرة مع حركة «الجهاد الإسلامي» لتخفيف التوتّر على حدود غزة، منْعاً للانزلاق إلى مواجهة.ويعود تاريخ الوساطات العربية بين المقاومة والعدو إلى نهايات انتفاضة الأقصى الثانية، فيما الجهود المصرية في هذا الملفّ - بمعزل عن تلك التي استهدفت إحقاق المصالحة الفلسطينية الداخلية بين حركتَي «فتح» و«حماس» - بدأ فعلياً إبّان عدوان عام 2008 على غزة. ومن ثمّ، قادت القاهرة مفاوضات صفقة تبادل الأسرى عام 2009، ليتمّ تنفيذ الصفقة في عام 2011. كذلك، تدخّلت مصر خلال حرب 2012 التي اندلعت عقب اغتيال قائد «كتائب القسام» أحمد الجعبري، وأيضاً في العدوان الكبير على القطاع عام 2014، وصولاً إلى معركة «سيف القدس»، وما تخلّل كلّ تلك المحطّات الرئيسة من جولات قتال قصيرة استمرّت لعدّة أيام، على غرار معركة «توحيد الساحات». ولم يكن استغلال إسرائيل الوساطة المصرية الأخيرة لاغتيال الجعبري، الأوّل من نوعها؛ إذ طالما اتّبعت تل أبيب هذه السياسة بهدف تنفيذ ضربات مباغتة للمقاومة، كما في كانون الأول 2008، عندما بادرت، في ظلّ الجهود الديبلوماسية، إلى تنفيذ غارات قاتلة استشهد فيها المئات من أفراد الشرطة في غزة، ليشكّل هذا فاتحة عدوان 2008. ولم يختلف المشهد عام 2012، حين اغتالت إسرائيل أحمد الجعبري في الوقت الذي كانت تُحاول فيه مصر تهدئة الأوضاع، والأمر نفسه انسحب على عام 2019، عندما اغتال العدو قائد «سرايا القدس»، بهاء أبو العطا، مستغلّاً تلك الجهود «التهْدوية» نفسها.
كلّ اتّفاقيات التهدئة أو الهدنة افتقرت إلى أيّ ضمانة بالتزام إسرائيل ببنودها


وإذا كانت الحوادث المُشار إليها تُظهر تلاعُب الاحتلال، وامتطاءه الوساطات لتنفيذ عمليات اغتيال وازنة، فإن التدقيق في كلّ اتّفاقيات التهدئة أو الهدنة، يُظهر أنها افتقرت إلى أيّ ضمانة بالتزام إسرائيل ببنودها، التي نصّت في معظمها على ضرورة تخفيف الحصار عن غزة، وتقديم تسهيلات مصرية لأهالي القطاع، وتسريع جهود الإعمار، وغيرها من التعهّدات التي ماطلت تل أبيب في تنفيذها. أمّا الاتفاق الأخير، والذي أنهى جولة «وحدة الساحات»، فقد جاء مقتضَباً وفضفاضاً، ولم يحمل توقيع «الجهاد» أو دولة الاحتلال، كما خلا من أيّ ضمانات أو جدول زمني أو حتى تعهّد إسرائيلي، باستثناء التزام مصر ببذل جهودها للإفراج عن الأسيرَين خليل عواودة وبسام السعدي، القيادي في «الجهاد»، والذي اعتُقل وسُحل وضُرب من مخيّم جنين، في ما مثّل شرارة المواجهة الأحدث. وعقبذاك، أرسلت القاهرة وفداً أمنياً إلى الأراضي المحتلّة وغزة في محاولة لتثبيت وقف إطلاق النار، وهو ما دأبت القاهرة على القيام به في كلّ مرّة ترْعى فيها اتّفاقاً. وتُولي مصر اهتماماً خاصاً لغزة، لا للاعتبار الأمني فقط، بل لكوْن ملفّ القطاع يوفّر مساحةً للقاهرة لِلَعب دور إقليمي، تحظى بموجبه بدعم «المجتمع الدولي»، خاصة إذا كان يراعي مصالح تل أبيب. إلّا أن مصر، التي استطاعت عقب الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي وتولّي عبد الفتاح السيسي زمام السلطة، التوصُّل إلى صيغة تفاهم مع حركة «حماس» التي تدير القطاع، لم تستخدم، خلال كلّ الوساطات التي تولّتها، أيّاً من أوراق القوة التي لديها لإلزام إسرائيل بتطبيق تعهّداتها، الأمر الذي يطرح علامات استفهام كثيرة حول جدوى أيّ وساطة يمكن أن يقودها المصريون مستقبلاً.
وفي هذا الإطار، يرى الكاتب السياسي، إبراهيم أبراش، في حديث إلى «الأخبار»، أن «كلمة الهدنة مصطلح ملتبس، خصوصاً حين تكون مصر هي الوسيط، فما معنى أن تكون هناك هدنة، طالما هناك احتلال إسرائيلي، وعمليات اغتيال في الضفة الغربية وحصار لقطاع غزة، وبالتالي كيف يمكن الحديث عن هدنة بينما الحالة العامّة هي حالة حرب؟». ويَعتبر أبراش أن «فهم إسرائيل للهدنة يقتصر على توقُّف الطرف الفلسطيني عمّا تسمّيه أعمال عنف، بينما هي لا تُلزم نفسها بأيّ هدنة، وطوال الحروب الماضية من عام 2008 حتى 2022، كانت هي مَن تخرق الاتفاقات حين تشعر بأن أمنها مهدَّد، فتقوم باغتيالات أو عمليات قصف وتشديد للحصار على القطاع، وتمنع دخول المواد الأساسية إليه». ويَعتبر أن «مصر ليست بالدولة القادرة على فرض أيّ شروط على إسرائيل أو إجبارها على الالتزام بتعهّداتها، كما أن تدخُّلها يجري لكونها الأقرب إلى قطاع غزة، الذي يشكّل والحال هذه جزءاً من أمنها القومي، وأيّ انفجار فيه سيؤثّر عليها، فضلاً عن العلاقات التاريخية التي تربطها مع القطاع الذي كان في السابق تحت سيادتها المصرية، وتفويض المجتمع الدولي إيّاها لعب دور تسكين الوضعَين السياسي والأمني، في مقابل تكليفه قطر بتوفير الدعم المالي، ناهيك عن أن الوساطة المصرية تأتي أحياناً بطلب إسرائيلي، وأحياناً أخرى بطلب من الفصائل الفلسطينية». ويخلص أبراش، بناءً على ما تَقدّم، إلى أن «التهدئة السارية حالياً ربّما لن تستمرّ لوقت طويل».