يفتتح أحد المشاهد من فيلم «معركة الجزائر» على منظر لفتيات جزائريات ثلاث يقمن بقصّ شعورهن وصبغها بالأشقر، كي يبدون فرنسيات، وليس ذلك من أجل الأناقة، ولكن كجزء من معركة التحرر في قصبة العاصمة. وفي مشهد آخر هناك مشهد تفجير مكان اختباء علي لي بوان مع حسيبة بنت بو علي وغيرهما من المناضلين في أحد مخابئ القصبة أيضاً. لاحقاً هناك مشاهد اعتقال وتعذيب جميلة بوحيرد، وغيرها عديدات، إلى اعتقال سعدي يوسف بطل معركة القصبة.إن كل تلك المشاهد تدفع بالمشاهد إلى إدراك الصراع الوجودي بين الاستعمار الخارجي والمقاومة المحلية، حيث يُطرح السؤال الثقافي بحدة، وتُطرح مسألة الهوية الثقافية بأوجهها المتعددة. فلكي تصل إلى خصمك عليك أحياناً أن تبدو مثله.

هذه كانت إحدى مميزات المناضلة الفلسطينية، ابنة يافا المدينة الفلسطينية المطلّة على البحر المتوسط، سائدة الأسمر، التي رحلت عن عالمنا قبل أيّام ونعتها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وبالتأكيد، فإن اسم سائدة غير معروف إعلامياً لأنها اضطرّت طيلة فترة حياتها النضالية للعيش تحت أسماء مستعارة متعددة، فحيناً كان اسمها لينا صالح رسّام، وحيناً كان اسمها ليلى، وأحياناً «الرفيقة س»، وأخيراً تُوفيت ودُفنت تحت اسم «حكمت صالح نصار».
هكذا تكون سيرة المناضلين الحقيقيين جزءاً من سيرورة حياتية وليس مرحلة ما. وهذا ما تفوّقت به الرفيقة الراحلة سائدة، التي دوماً ما تفوّقت على خصومها بالتزامها بأسلوب حياة معيّن مترافق مع فهمها لصيرورة الصراع مع العدو الغاشم الذي احتل فلسطين وغيرها من الأراضي العربية. هنا تصبح المقاومة أسلوب حياة ينعكس من خلال الفهم العميق لمعنى المقاومة وليس شعاراً يُطلق جزافاً، وهنا تتكرس مقولة إدوار سعيد حول الثقافة المقاومة التي عرّفها بـ«إنتاج فكر ولغة يجسّدان إرادة الدفاع عمّا هو مهدد بالانقراض في الحياة العربية، وهو الكفاح ضد القطيعة والتمزيق والكسر التي أحدثتها إسرائيل في التاريخ العربي، أي الكفاح لاستعادة الصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل في الحياة العربية».
بدأت سائدة التزامها السياسي في بغداد حيث استقرّت عائلتها بعد النكبة عام 1948، وهناك درست الأدب الإنكليزي، وانتمت إلى «حركة القوميين العرب»-ساحة العراق، التي قادها الشهيد الدكتور باسل الكبيسي. لاحقاً، التحقت بـ«الجبهة الشعبية» سنة 1968 في ساحة الأردن وشكّلت أحد العناصر الخلفيين في الجبهة، حيث ساهمت في المهام الإدارية والمالية مع فايز قدورة، المناضل التاريخي في ثورة 1936، وأحد قيادات حزب «النجادة» في معركة صفد سنة 1948.
تميّزت سائدة الأسمر من الناحية الفيزيولوجية بطول لم يتعدَّ 145 سم وجسم صغير نسبياً، إلا أنها من الناحية العملانية فقد تميّزت بحبّها للثقافة العربية بالإضافة إلى التزامها العميق ومثاليتها الانضباطية الشديدة التي كانت تطلبها من الآخرين وليس من نفسها فقط، لدرجة أنها استفزّت العديد من الكوادر الثوريين ذوي الاتجاهات الشعبوية والفوضوية. كما امتازت بحبّها للأناقة المفرطة وأساليب التنكّر التي تعرّفت إليها من خلال عملها في الإذاعة والمسرح في بغداد حيث التقت بالعديد من كوادر الحركة المسرحية والثقافية في بغداد الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فكانت تأتي إلى مكاتب المقاومة بكعب عالٍ يتجاوز أحياناً العشرة سنتيمترات. كما امتازت بإتقانها للغتين العربية والإنكليزية والشعر العربي والإنكليزي، ما خلق لها عدم ارتياح عند عديدين. لكنها آمنت دوماً بقدرة الثقافة العربية على تجاوز حاضرها المأزوم إلى مستقبل أفضل.
شاركت سائدة الأسمر في التخطيط والتنفيذ للعديد من العمليات ضد العدو الغاشم، وأثبتت قُدرة المرأة العربية على تسلّم أخطر وأعقد المهام. يعرفها العديد من ثوار العالم الثالث وحركات التحرر العالمية في آسيا، أوروبا، أفريقيا وأميركا اللاتينية، وقد يكون أفضل مثال على قدرتها على حل أعقد وأدق المشاكل، كالتي ظهرت عند التحضير لعملية سينما «حين» في تل أبيب سنة 1974، وعند تحضير وثيقة السفر لمنفذ العملية الشاب الإيراني مظفّر - التابع لمجموعة الدكتور محمود الإيرانية. حيث حصل خطأ خلال لصق صورة مظفّر على وثيقة السفر البريطانية، فتولّت هي بأناملها الصغيرة الأنيقة تصحيح الخطأ بعدما طلبت من الجميع المغادرة، وهكذا كان وتمّت العملية بنجاح تام. إن تلك الحادثة تثبت إمكانية المرأة العربية على تولّي أدق وأصعب المهام، وأن تحافظ على أصعب الأسرار وتؤتمن عليها. كما قامت عند وفاة المناضل التاريخي وديع حداد بالمشاركة في تصميم وتنفيذ الميدالية التي صُنعت تكريماً له في ذكرى وفاته الأولى، وقد قام بتنفيذها أحد النحّاتين العراقيين الكبار.
عاصرت سائدة احتلال بيروت سنة 1982 من قبل الجيش الإسرائيلي ورفضت مغادرة المدينة وبقيت فيها، رغم تواجدها أحياناً في مواجهة بعض قيادات الجيش المحتل الذين لم يتعرّفوا إليها. كما انتقلت إلى بغداد قبل الاحتلال الأميركي لها ووقفت بجانب عائلتها وأصدقائها خلال الاجتياح سنة 2003.
لقد قدّمت سائدة وغيرها من المناضلات الفلسطينيات والعربيات، الكثير، بدءاً من شادية أبو غزالة، إلى وداد قمّري، إلى عبلة طه، إلى رسميّة وعائشة عودة، إلى أمينة دحبور ومنى السعودي وليلى خالد ومها أبو خليل، وغيرهن عديدات. هذا الخط من المناضلات، بدءاً من حسيبة بنت بو علي في قصبة الجزائر، الممتد إلى مصر خلال العدوان الثلاثي عليها، مروراً بفلسطين وجميع المعتقلات، بالإضافة إلى زوجات وأمهات المعتقلين في فلسطين، إلى جنوب لبنان المحتل من سناء محيدلي ولولا عبود إلى سهى بشارة وغيرهن عديدات مجهولات، وأخيراً إلى المرابطات حالياً في المسجد الأقصى والشهيدة شيرين أبو عاقلة، يعبّر عن تمسّكهن بالحقوق العربية في فلسطين والأراضي المحتلة وبأنّهن ما بدّلن تبديلاً. كما يثبت شيئاً واحداً فقط: أنّ المرأة العربية قد تصدّت بكل قواها ووقفت على مستوى واحد مع نضال الرجل العربي في مواجهة الصراع الخطِر والوجودي على المستقبل العربي!
هنا تتجلى بوضوح أزمة الحداثة والتحدي الثقافي العربي، حيث إنّ قضية فلسطين هي إحدى أعقد معضلاتها، ألا وهو موضوع المستقبل العربي وكيف نريده أن يكون، والذي لا يمكن أن نسمح بأن يخطّه بضعة صهاينة متشددين.