منذ أشهر، يُحكى عن زيارة سيقوم بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية، فيما تَجري مقارنة الحفاوة التي سيخصّه بها وليّ العهد محمد بن سلمان، بتلك التي لقيها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2017، حين رقص «العرْضة» مع والده الملك سلمان. لكن للزيارة التي يريد ابن سلمان إغاظة الرئيس الأميركي جو بايدن بها مغزًى عميقاً بالنسبة إلى الصين التي تسعى، ضمن مخطّط توسيع نفوذها في العالم، لتحقيق اختراق كبير في جدار الهيمنة الأميركية على منابع النفط في الشرق الأوسط، حيث تُعدّ المملكة أكبر مصدّر للنفط في العالم، والصين أكبر مستورد له، وتحديداً السعودي منه
بعد الاختراق الروسي الذي ساهم التحالف مع السعودية في «أوبك بلس» في تحقيقه، وأعان موسكو على الإفلات من محاولة الحصار الأميركية - الأوروبية في أعقاب حرب أوكرانيا، هل يتحقّق اختراق آخر للهيمنة الأميركية، هذه المرّة على يد الرئيس الصيني شي جين بينغ الآتي إلى المملكة على خلفية توتّر كبير مع واشنطن، نتيجة زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، الاستفزازية لتايوان؟ زيارة شي للسعودية، والتي طال انتظارها، قد تحْدث هذا الأسبوع، إذا صحّ تقرير لصحيفة «الغارديان» البريطانية، أكّده أيضاً موقع «ذا ميديا لاين»، وتناولته كبريات المحطّات العالمية، ولا سيما الأميركية. وعلى رغم أن الزعيم الصيني يأتي بعد استقرار نسبي للعلاقات السعودية - الأميركية، نتيجة زيارة الرئيس جو بايدن لجدة في منتصف تموز الماضي، والتي مثّلت «بيْعة» أميركية لابن سلمان حاكماً للمملكة، أعْقبها تراجع محدود ولكن ثابت في أسعار النفط، في ما اعتبره مراقبون علاقة سببية بين التطوُّرَين، إلّا أن التهدئة لا تعني نهاية المشاكل بين ابن سلمان وبين الديموقراطيين في أميركا، ولا بين السعودية وأميركا، خصوصاً أن وليّ العهد لا يأْمن جانب بايدن، ولا يأْلف الديموقراطيين الأميركيين عموماً. ولذا، ثمّة مساحة بالنسبة إلى الصين لتُقارع فيها الولايات المتحدة، حتى بعد إعادة الأخيرة النظر في تخفيف التزامها بأمن الأنظمة الخليجية، من خلال سحْب أصول عسكرية من المنطقة. وللمفارقة، قُدِّم سحب تلك الإمكانات بوصفه تمهيداً لنقلها إلى شرق آسيا لمواجهة ما اصطُلح على تسميته «صعود الصين» لانتزاع المكانة الأولى عالمياً من الولايات المتحدة، فإذا بالصين هي التي تأتي إلى الشرق الأوسط لمواجهة أميركا هنا، وتَفرض عليها إعادة حساباتها، وهو ما عبّر عنه المبعوث الأميركي إلى اليمن، تيموثي ليندركينغ، حين قال تعليقاً على الأنباء عن زيارة شي إن «الولايات المتحدة ليست ذاهبة إلى أيّ مكان».
ابن سلمان لا يثق ببايدن ويريد إبقاء خيار تنويع العلاقات قائماً


ولأن تحسين العلاقة مع الرياض بالنسبة إلى الأميركيين، يمرّ بخفض تعاون المملكة مع روسيا في هذه المرحلة، لا مع الصين، فإن الحفاوة بالرئيس الصيني لن تستفزّهم بالقدر الذي استفزّهم به التعاون النفطي مع موسكو في إطار «أوبك بلس»، والذي يبدو في طريقه إلى التراجُع عمّا كان عليه في السنتَين الأخيرتَين. فالمنافسة الصينية للأميركيين، على رغم أنها الأكثر إقلاقاً لهم، إلّا أنها طويلة النَّفس، وتجري بلا صدامات حادّة وضمن قواعد اشتباك متعارف عليها بين الطرفَين، وفق ما أظهره ردّ الفعل الصيني على زيارة بيلوسي لتايوان، والذي ظلّ محدوداً، على عكْس ما يجري مع موسكو التي سعت واشنطن لتطويقها من بوّابة أوكرانيا وفشلت، وتحاول الآن الحدّ من الأضرار التي تسبّبت بها العملية العسكرية الروسية في هذا البلد لها ولحلفائها الأوروبيين. أمّا بالنسبة إلى ابن سلمان، فإن الرئيس الصيني هو «بدل عن ضائع» بغياب ترامب أو ما يُعادله أميركياً، في انتظار عودة الرئيس الأميركي السابق إلى البيت الأبيض، والتي قد تكون أصبحت أبعد احتمالاً بالنظر إلى المشكلات التي واجهها الأخير بعد مداهمة منزله في فلوريدا لاستعادة وثائق سرّية. ومن هنا، لا يجد وليّ العهد السعودي بدّاً من الاستمرار في تنويع علاقاته الدولية، أو على الأقلّ إبقاء الخيارات الأخرى قائمة، من دون الإضرار بالمصالح الأميركية بشكل كبير. ولذلك، مثلاً، يسدي ابن سلمان خدمة للصينيين بتسليم المعارضين الأويغور الذين يأتون للحجّ من بلدان أخرى، فيما الاتفاق على بيع النفط السعودي لبكين باليوان الصيني بدل الدولار، والذي لوّح به ابن سلمان في ذروة تأزُّم العلاقة مع الأميركيين، يكاد لا يتحدّث عنه أحد في المملكة الآن. بدورها، فهمت واشنطن ما يخيف السعوديين، ولذا فهي وافقت على إبقاء الحماية الأمنية لأنظمة الخليج، وفق ما أعلنته بعد قمّتَي جدّة، السعودية - الأميركية، وتلك التي جمعت بايدن بقادة «مجلس التعاون الخليجي» ومصر والأردن والعراق.
وإذا كانت أميركا تُعاير السعودية ودول الخليج بأنها هي مَن أرسلت الجيوش لحمايتها - بينما روسيا والصين لا تفعلان ذلك -، فإن السؤال الذي يشغل بال تلك الدول هو هل ما زالت الولايات المتحدة مستعدّة لتفعيل هذه الحماية؟ وبأيّ ثمن؟ على الأرجح، لن تمثّل إعادة النظر الأميركية في قرار الانسحاب من الشرق الأوسط، والذي يعني ترك أنظمة الخليج لمصيرها، عامل اطمئنان كافياً للأخيرة. كما أن العلاقات الأميركية - السعودية تَسِمها تعقيدات كثيرة؛ خصوصاً بعدما صارت قضية داخلية أميركية تدْخل ضمن التنافس الحزبي. وفي هذا السياق، وضع السعوديون، وفق حسابات معروفة للحكومة السعودية على «تويتر»، تسريب الديموقراطيين في واشنطن أنباء عن أن الوثائق المصادَرة من منزل ترامب تتضمّن ملفّات نووية فائقة السرّية كان ينوي إعطاءها للسعودية مقابل المال. كذلك، يواجه ابن سلمان الذي لم يُمنح حصانة رؤساء الدول في الولايات المتحدة، نزاعات قضائية كثيرة، بصورة شخصية مباشرة، مثل الصراع المرير مع سعد الجبري، أو عبر معاونيه، كما في حالة إدانة هيئة محلَّفين في سان فرانسيسكو الموظّف السابق في «تويتر»، أحمد أبو عمو، بالتجسّس على معارضين سعوديين وتسليم بياناتهم لقاء مبالغ مالية كبيرة تلقّاها من مدير مكتب وليّ العهد، بدر العساكر. ولذا، لا يخفي النظام السعودي رغبته وسعيه لإنهاء سيطرة الديموقراطيين على مجلسَي الكونغرس في الانتخابات النصفية في تشرين الثاني المقبل، ومن ثمّ إخراجهم من البيت الأبيض عام 2024. وتشير دلائل كثيرة إلى أن هذا الأمر يمثّل أحد أهمّ أهداف التطبيع السعودي غير المعلَن، وإنّما المتسارع، مع إسرائيل، وهو الذي أثمر ضغطاً إسرائيلياً كبيراً على بايدن لزيارة المملكة ومبايعة ابن سلمان الذي يمثّل وجوده في الحُكم مصلحة إسرائيلية، وهو ما أكّده علناً بايدن نفسه والإسرائيليون.