في عام 1978، أصدرت «نقابة المحامين» في دمشق، بياناً طالبت فيه برفع حالة الطوارئ وإلغاء الأحكام العُرفية واحترام حقوق الإنسان وإطلاق الحريات العامة، وغير ذلك من بنود كانت تمثّل موقفاً تجاه سلوك السلطة في سوريا آنذاك. موقفٌ انتهى عام 1980 إلى حلّ نقابات الأطباء والمحامين والمهندسين، وإعادة تشكيلها على طريقة «حزب البعث»، عبر تحويلها إلى ما يشبه «فروعاً» للحزب، مع فارق أنها تتبع مكتب النقابات في «القيادة القطرية البعثية». اليوم، ثمّة جهود حكومية لإصلاح العمل النقابي، لكن هذه الجهود لا تزال تتحرّك في الدائرة نفسها، ما يعني أن استقلالية النقابات وإدارتها الذاتية وديموقراطيتها ستبقى، أقلّه وفق المعطيات الحالية، حلماً بعيد المنال
يلغي مشروع القانون مفهوم الأبدية النقابية لصالح دورتَين انتخابيتَين فقط (من الويب)

كان الدستور السوري الصادر عام 2012، واضحاً جداً في المادّة العاشرة منه لناحية استقلال النقابات والاتّحادات المهنية، إلّا أن هذا النص لم يغيّر من واقع الأمر شيئاً، حيث بقيت هذه النقابات تابعة فعلياً لـ«حزب البعث» الذي أصدر منذ العام المذكور إلى اليوم، عشرات القرارات المتعلّقة بها، وأشرف على مؤتمراتها وانتخاباتها وتعييناتها وكلّ تفاصيلها، حتى أن المراسلات المتبادلة بين قيادات الحزب والنقابات تبدأ بكلمة «رفيق»، وهي المفردة الحزبية الشهيرة. هذا الواقع كان وما زال محطّ انتقاد من قِبَل عشرات السياسيين والنقابيين المهتمّين بالشأن العام وغير المنضوين تحت راية الحزب الحاكم، إلّا أن أحداً لم يكترث للأصوات المطالبة باستقلال النقابات. وحتى عندما أرادت الحكومة التَوجُّه نحو الإصلاح النقابي، جاءت خطواتها تحت راية «البعث»؛ إذ إن مشروع «القانون الموحّد لنقابات سوريا» الذي أعدّته، لم ترسله مباشرةً إلى النقابات، بل وجّهته إلى قيادة الحزب حتى تقوم الأخيرة بتعميمه على المجالس النقابية لإبداء ملاحظاتها عليه، وهو ما يعدّ اعترافاً حكومياً بإشراف «البعث» على العمل النقابي، وفق ما يرى المنتقدون.

ما له وعليه
مشروع القانون الذي حصلت «الأخبار» على نسخة منه، يهدف إلى توحيد البيئة القانونية التي تعمل النقابات في ظلّها، بحيث يكون هناك قانون عام لها جميعاً، مع الإبقاء على القوانين الحالية التي تنظّم عمل كلّ منها بشكل منفصل، بشرط أن لا يتعارض القانونان الخاص والعام. ويتضمّن المشروع 51 مادة، أبرزها المادة 48 التي تتيح لرئيس مجلس الوزراء «حلّ المؤتمر العام أو المجلس أو مجالس الفروع في حالة انحراف أيٍّ من هذه الأجهزة عن مهامها وأهدافها»، وهو ما أثار الجدل باعتبار النص فضفاضاً ويمكن تفسيره كما تريد السلطة التنفيذية من جهة، كما أنه يسلب النقابة استقلاليتها وإداراتها الذاتية والديموقراطية لنفسها وقدرتها على اتّخاذ قرار الحلّ والانتخاب ضمن المؤتمر العام من دون تدخُّل من السلطات الأخرى، من جهة ثانية. كذلك، ينيط المشروع بالوزير المختصّ دعوة المؤتمر العام إلى الانعقاد في حالات محدّدة كحلّ المجلس العام للنقابة، وهنا، يطالب النقابيون بأن يتولّى كبير أعضاء المؤتمر العام أو أقدمهم الدعوة إلى الانعقاد من دون تدخُّل الوزير، على قاعدة «أهْل مكة أدْرى بشعابها».
مشروع القانون يهدف إلى توحيد البيئة القانونية التي تعمل النقابات في ظلّها


في المقابل، يحمل المشروع العديد من البنود الإيجابية، لعلّ أبرزها أنه يحدّد صلاحيات رؤساء النقابة ومجالس الفروع التي أسيء استخدام بعضها في أوقات سابقة. كما أنه يلغي مفهوم الأبدية النقابية لصالح دورتَين انتخابيتَين فقط، على ألّا تتجاوز مدّتهما 8 سنوات، وهو بهذا يضع حدّاً لقيادات نقابية مضى على وجودها في مناصبها قرابة 30 عاماً. كذلك، يَسحب من النقابات صلاحيات التأديب التي يقول بعض الأعضاء إنها استُخدمت أحياناً لمصالح شخصية، وينيطها بلجنة قضائية، ما يساهم في الحدّ من تضارب المصالح والمشكلات الشخصية لصالح عدالة أكبر. أيضاً، يُخضِع المشروع النقابات للجهاز المركزي للرقابة المالية والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، ما يعني متابعة صندوق النقابة وكيفية صرف الأموال، ومعالجة ثغرة في القانون النافذ حالياً تتيح إدارة الأموال من دون رقيب من خارج النقابة ذاتها. على أن هذه الفقرة لم تَرُق بعض المجالس التي عبّرت، في ردودها على المشروع، بحسب معلومات «الأخبار»، عن اعتراضها على تحديد مدّة الولاية والتدخّلات المالية والرقابة عليها.

تحسين لا استقلال
يرى المحامي عارف الشعال أن المشروع يُحسِّن من واقع العمل النقابي، لكن معظم المبادئ القانونية فيه تعني مزيداً من فقدان استقلال النقابة لصالح الأجهزة الحكومية؛ فهو جعل لكلّ النقابات هيكلاً تنظيمياً واحداً، وحدّد صلاحية كلّ مؤسّسة من مؤسسّات النقابة سواءً المجلس أو مجالس الفروع أو الهيئات العامة أو المؤتمر العام، وحينما تتوحّد الهياكل التنظيمية بقانون واحد، يَسهل على السلطة التعامل معها، كونها تَعرف تكوينها العام وليست مضطرّة للدخول في متاهة قانون كلّ نقابة. ويضيف الشعال أن القانون المطروح يساهم بشكل كبير في تلافي الكثير من العيوب والثغرات الموجودة في قوانين النقابات، كما يخفّف صلاحياتها الكبيرة ويجعلها بيد القضاء الإداري أو يربطها بموافقة مجلس الوزراء. ويضرب مثلاً على ذلك بالقول إنه لم تَعُد نقابة المحامين تستطيع التحكُّم بسعر الوكالة الذي تفرضه على المواطنين، بل ستصبح بحاجة إلى موافقة مجلس الوزراء، علماً أن النقابة قامت أخيراً برفع قيمة الوكالة القانونية لتبلغ حوالى 35 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ يعادل نصف راتب موظف حكومي تقريباً. وخلال عقود من الزمن، اشتكى المنضوون تحت راية هذه النقابات من أنها لا تدافع عنهم كما يجب، وتتساوق مع الحكومة في العديد من القضايا. وإذ تقول المصادر الحكومية، لـ«الأخبار»، إن الهدف من مشروعها تطوير العمل النقابي، فإن تحقيق هذا الهدف يحتاج تغييراً للعقلية وتبديداً للمخاوف وضمان وصول قيادات تمثّل مصالح النقابيين وتلبّي تطلعاتهم وتكون نصيرهم أولاً وآخراً، وهو ما يتطلّب بالدرجة الأولى ضمان استقلال النقابات، وفق ما يراه مراقبون.