شمس الجليلمنذ ان استوطنوا ارضنا كانت قطعان المستوطنين تسلب وتنهب وتخرّب وتضرب وتقتل. لم يتغير هذا يوماً. لكن هذه المرة كانت مختلفة، كان القتل وحشياً والحقد الذي دفعهم لحرق محمد ابو خضير حيّاً ـ وهو لم يتجاوز 16 من عمره ـ أكثر من ان يتزحلق عن اذاننا، واشتعلت القدس غضباً؛ اشتعلت بهم يريدون الانتقام والدم، واشتعلت بنا نحمي ما تبقى منا وما تبقى لنا!
من الصعب ان نبدأ من نقطة محددة بعينها لنحدد سبب الاحتقان والغضب الذي ما لبث ان انفجر مجدداً في وجه الاحتلال، لكن الاكيد ان استشهاد الفتى محمد ابو خضير من القدس كان شرارة اشعلت القدس والضفة وأراضي 48 من جديد!

كل الصور عادت من الانتفاضة الثانية كأنها تستأنف حديثاً قطع فيما مضى. المواجهات، الغضب المنطلق من القدس لينتشر شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، الجو المحتقن بالحقد المكبوت «عليهم» وبكاء الامهات بصمت على محمد. في الانتفاضة الثانية بكوا على «محمد» آخر كان محمد الدرّة. كنا صغارا حينها ولم نسمع التهديد شخصيا، لكننا هذه المرة نتلقاه بأنفسنا: تهديدات للطلاب العرب بالقتل تصلهم بشتى الطرق، قطعان المستوطنين تدخل القرى والمدن العربية داخل الخط الاخضر في محاولات متكررة لخطف الاطفال والاعتداء على السكان العرب. ماذا بقي لنا لنخسره؟
ابت روح محمد، الفتى المقدسي، ان تغادر فلسطين، ظلّت تحوم بين ازقة القرى والمدن الفلسطينية لتجمع اهلها اخوة في الدم؛ الطلاب العرب الذين يدرسون في الجامعة العبرية (وهم من مناطق 48) اصطفوا طوابير للتبرع بالدم ومساعدة الاطباء حين اعلن مشفى «المقاصد» في القدس الشرقية حاجته للدم ولمتطوعين اثر المواجهات التي لم تتوقف والجرحى والمصابين الذين لم يتوقف تدفقهم، ايضا تدفق المتطوعين من الطلاب والسكان لم يتوقف. وفي الداخل، انتفض المثلث كذلك، لمن لا يعرف ما هو المثلث، فهو اسم اطلق على تجمع كبير لمدن وقرى عربية في الداخل المحتل (6 مدن رئيسية و21 قرية)، تقع في مركز البلاد غرب الضفة الغربية، وسابقاً لم يكن يفصل المثلث عن الضفة الغربية شيء، اما الان فيفصل جدار الحقد الصهيوني بين الام وابنتها اذا تزوجت في الجهة المقابلة! في لحظة ما، تقسمت الى لحظات كثر، اشتعل المثلث كذلك، وانضم الى القدس والضفة وغزة التي امطرت مستوطنات الجنوب سيولاً من صواريخ استجدى الاحتلال توقفها. ومن المثلث خرج الناس في «رهط» جنوباً الى «طرعان» شمالاً.

كل ما حولنا يعمل لمصلحة اندلاع انتفاضة ثالثة

اما حيث لم يخرج الناس بعد، فهناك شعور خفي بالعار، لماذا لم نخرج بعد؟ يتساءلون، يحرضون بعضهم، يصنعون الخطط للمواجهة من دون التعرض للاعتقال ويرصون الصفوف. يجهزون لجو شبيه بالذي كان خلال الانتفاضة الثانية ويستخلصون العبر. جميعنا نريد انتفاضة ثالثة، الكل يردد اليوم: «اذا ما خربت ما بتعمر»!
والحقد الصهيوني الذي يدفع الاف المستوطنين للشوارع وهم يرددون «الموت للعرب»، هذا الحقد الذي يجعلهم يحاولون اختطاف الاطفال مرة بعد مرة، الحقد نفسه الذي يدفع الاف الجنود لإغراق شبكات التواصل بصورهم وهم يطالبون بالثأر والانتقام من العرب، هو نفسه المغذي لثورتنا، هو نفسه الذي يدفعنا هنا لمقاومة المحتل والسعي للانتصار عليه، فالحرب الان حرب بقاء!
فجأة تقف وحدك عارياً امام حقيقة «زملائك»: بالعمل، الدراسة، جيرانك (اذا كنت تسكن احدى المدن المختلطة)؛ تصلك من حيث لا تدري التهديدات، تهددك باسرتك، بابنائك، بمستقبلك، باملاكك... كنت تعرف انهم لا يحبونك، وانت لم تحبهم يوماً كذلك، لكنك لم تكن تعرف انه من الممكن ان ينفجر حقدهم جماعياً هكذا، وقحا هكذا في لحظة واحدة. وهم يسترخصون دمك، انت بنظرهم مجرد «نفس» في جسد ولست «روحاً طاهرة» مثلهم، هكذا تنظر اليك تعاليمهم، هكذا يعبئون رؤوس اطفالهم المجرمين منذ الصغر؛ لأنك لست منهم، فانت لا تختلف عن الحيوانات، وهم وحدهم «البشر». تتذكر تعطشهم للدماء، وتحمد الربّ كثيرا انك لست مثلهم!
كل ما حولنا يعمل لمصلحة اندلاع انتفاضة ثالثة؛ اسرائيل فقدت «شرعيتها» بضرب غزة، وفقدت السيطرة على الوضع الداخلي (حتى الان على الاقل)، وحتى ان احكمت السيطرة، فان سعار المستوطنين وتعطشهم للدماء يجعل من المستحيل ان يتوقف فلسطيني عن القتال، ليحمي ابناءه واهله، لأننا ان اردنا ان نلخص السعار الصهيوني تجاه الفلسطينيين فيمكننا ان نشرحه بكلمتين: تعطش للدماء. وان اردنا ان نسهب يمكننا ان نقول من دون مبالغة ان التهديد وصل كل بيت عربي في فلسطين التاريخية، ولأنه لم يعد لدنيا ما نخسره الا حياتنا، فإننا لا بد ان نحيا ونحن ندافع عن انفسنا واهلنا او نهلك دون
ذلك!
لم يحتج الامر في نهاية المطاف لأية دعوة او صفحة فيسبوك او «ستاتس»، كل ما احتاجه ان تستيقظ فينا فطرة الفدائي، تلك الفطرة التي تجمعنا اخوة في الدم والوطن المسبي، وتجعلنا مهما طال علينا الظلم، نصطف طوابير لمساعدة من هُدمت بيوتهم.
عندما رأينا قتلنا بوحشية مجدداً (يقال ان الانتفاضة الاولى ايضا اندلعت بسبب عملية انتقام قام بها مستوطن بحق فلسطينيين في قطاع غزة)، عندما حُرمنا من دخول الاقصى مجدداً (الانتفاضة الثانية اندلعت بسبب دخول شارون الى الاقصى)، عندها لم يعد لدينا ما نخسره! غير ان الجواب النهائي ان كانت تلك الانتفاضة الثالثة ستتم ام لا يجيب عليه الشارع وحده، والشباب الذين يواجهون الرصاص الحي والمطاطي بصدور عارية، ويردون على قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع بمفرقعات الافراح والزجاجات الحارقة، فان لم يستمع الشباب الى «الاصوات» النشاز التي تدعو «لعدم الانجرار نحو العنف» او تلك التي تدعو الى «التعايش المشترك»، او التي «تلوم الفلسطينيين على ما حدث فهم من خطفوا المستوطنين اولا»، او تلك التي تحبط من عزيمتهم بالقول «ان الشعب غير جاهز لانتفاضة ثالثة»، او «ان الثمن الذي سندفعه سيكون باهظا»، او «ان الشارع الفلسطيني اليوم لا يشكل بيئة حاضنة لمواجهة كهذه لأنه ركن الى السلم طويلا ولان القيادات متخاذلة»، ان لم يستمعوا لكل هذه الاصوات وعملوا بفطرتهم السليمة وحدها، متسائلين سؤالا او اثنين؛ ماذا بقي لدينا لنخسر؟ هل ستحتلنا «اسرائيل» مثلا؟ سيعرفون الاجابة وسيجيدون الرد.







الصورة للفتى المقدسي طارق أبو خضير ابن عم الشهيد محمد الذي أحرقه المستوطنون الإسرائيليون حيًّا، وكان شرارة الأحداث الأخيرة. برغم ما هو ظاهر على وجه طارق بسبب التعذيب والضرب الوحشي على يد الشرطة الإسرائيلية، فإن ما أنقذ حياته هو «جواز سفره الأميركي»! وكان الفتى قد خرج في المسيرات المحتجة على استشهاد ابن عمه قبل أن تعتدي الشرطة عليه مع أنه كان فاقد الوعي. أمس، أفرج عنه بالتزامن مع استنكار أميركي لاعتقاله لكنه لا يزال قيد الإقامة الجبرية، كما فرضت كفالة مالية باهظة على ذويه.