على رغم نفْي الإدارة الأميركية المتكرّر أن تكون الزيارة المرتقبة لجو بايدن إلى السعودية متعلّقة بموضوع النفط، والتأكيد أن مسألة علاقة الرئيس بوليّ العهد السعودي ليست ذات أولوية على أجندة الزيارة، إلّا أن ما يبدو واضحاً هو أن المقايضات الثنائية، وعلى رأسها النفط مقابل «سلامة» ابن سلمان، ستكون الموضوع الأبرز في المباحثات. وينبئ تعمّد بايدن إشاعة الغموض بشأن اجتماعه مع ابن سلمان، بأن الأمور لم تُحلَّ تماماً في العلاقة بين الرجلَين، فيما يَظهر أن التطبيع مع إسرائيل يمثّل رهاناً ثابتاً بالنسبة إلى الأخير، سواءً أغْناه تحسُّن العلاقات مع بايدن عن روسيا، أو بقِي على تحالفه النفطي مع فلاديمير بوتين
تكشِف التحضيرات البعيدة عن الأضواء لزيارة جو بايدن للسعودية، أن الصفقة المفترَضة بينه ومحمد بين سلمان ليست ناجزة بعد، على رغم مساعي إسرائيل الحثيثة للتوصُّل إليها، إذ أسدى العدو خدمة لوليّ العهد السعودي، تتمثّل في جلب الرئيس الأميركي إلى المملكة لإنجاز الصفقة هناك، بهدف تسليف ابن سلمان دفْعة على حساب التطبيع من جهة، والإمساك برقبته للتحكُّم بهذا المسار وسرعته ضمن أيّ اتفاق قد يَخرج عن اجتماعات جدة، الأمر الذي لم ينكره بايدن حين قال قبل أسبوع إن الإسرائيليين دفعوا بقوّة نحو هذه الزيارة.
ويحمل بايدن، في رحلته، سيفاً قضائياً مُصْلتاً على رقبة وليّ العهد، وهو إمّا سيرمي هذا السيف من يده إيذاناً بنيّته وقف المبارزة، وإمّا سيعود الرجلان إلى التبارز من جديد. ويدور الحديث، هنا، حول قرار قاضٍ أميركي الطلب من الإدارة الأميركية إبلاغه قبل الأوّل من آب المقبل، ما إذا كانت تريد منْح ابن سلمان حصانة رؤساء الدول من المقاضاة في قضية مدنية رفعتها ضدّه خطيبة جمال خاشقجي، خديجة جنكيز، ومنظّمة «داون» لحقوق الإنسان، في الولايات المتحدة. ونتائج الزيارة نفسها ستعطي مؤشّرات إلى وُجهة تحرّك الإدارة التي تملك ثلاثة خيارات، هي منْح الحصانة أو حجْبها أو عدم إبداء رأي وترك المسألة للقاضي. وإذ يبدو الخيار الثاني مستبعَداً لأنه يعني عملياً أن لا اتفاق، ولو كان هو خيار الإدارة لما كانت الزيارة من الأساس، فإنه في حال طلبت الأخيرة منْح الحصانة، فسيكون ذلك مؤشّراً إلى صفقة شاملة تُعدّ الآن خلْف الكواليس، وتقضي بإغلاق الملفّات القضائية لوليّ العهد السعودي، والاعتراف به حاكماً للمملكة. إلّا أن السيناريو المتقدّم سيكون، في المقابل، مُحرِجاً لبايدن، لأنه سيعني بيعاً علنياً لدم خاشقجي إلى ابن سلمان، على الطريقة التي حصلت في تركيا تمهيداً لمصالحة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، مع السعودية.
ولتخفيف وقْع هذا الحرج، يحاول بايدن إلصاق الأمر بـ«مصلحة» إسرائيل، التي تدْفع بالفعل، بقوّة، في اتّجاه عقْد صفقة تكون فاتحة لعهد التطبيع بين السعودية والكيان، في ما سيمثّل في حال تَحقّقه «جائزة كبرى»، بالنظر إلى ما للمملكة من رمزية في العالم الإسلامي بوصفها تحتضن الحرمَين، وما لها من نفوذ واسع، ولا سيما في الخليج، نابع من كوْنها أكبر مصدِّر للنفط في العالم. كذلك، ومن أجل هدف درْء الحرج نفسه، جرى توسيع إطار الزيارة التي ستشمل أيضاً اجتماعاً مع قادة دول «مجلس التعاون الخليجي» ومصر والأردن والعراق، في محاولة لبناء تحالف إقليمي لم تتّضح تفاصيله بعد، وما إذا كان سيُعلَن خلال الجولة أم لا، أخْذاً في الحسبان تضارب مواقف الدول المعنيّة من ملفّات أساسية، ولا سيما العلاقة مع إيران، ورفض بعضها التطبيع مع العدو.
ما كان ابن سلمان ليتمكّن، لولا التحالف النفطي مع بوتين، من فرْض التراجع الكبير على بايدن


وإذ لا يبدو ابن سلمان مستعجلاً في تسليم كلّ أوراقه، بعدما نجح في جرّ بايدن لزيارته السعودية، على رغم الإساءات المتتالية إلى الأخير، فإن الرئيس الأميركي قد لا يستطيع خدمته، حتى لو أراد. ذلك أن القرار بشأن الحصانة هو قرار تقني تتّخذه وزارة الخارجية بناءً على تقييم للمصلحة الأميركية، وبالتالي قد تكون مشكلة ابن سلمان هي مع «المؤسّسة» لا مع بايدن وحده، الذي سيكون عليه اعتماد سلوك مشابه لما قام به سلفه دونالد ترامب، أي التحايل على تلك «المؤسّسة»، لتأمين اتّفاق مع وليّ العهد. وبمجرّد أن يتعمّد بايدن إشاعة الغموض بشأن اجتماعه مع ابن سلمان، فهذا يعني أن الأمور لم تُحلَّ تماماً في العلاقة بين الرجلَين. وممّا يعزّز التقدير المذكور أيضاً هو أن اجتماعات «أوبك بلس» أكدت أن ابن سلمان ليس في وارد التخلّي فوراً عن تحالفه النفطي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي ينعكس بدوره على أسعار النفط، التي لم تنخفض بعد الإعلان عن زيارة بايدن.
والجدير ذكره، هنا، أن أيّ تأثير سعودي وخليجي في أسواق النفط نحو خفْض الأسعار، لا يمكن أن يحصل إلّا بتعطيل مفاعيل الاتفاق مع بوتين - تنتهي مدّته في أيلول المقبل - والذي أظهرت حرب أوكرانيا وما جرّته من ارتفاع في أسعار النفط، أنه أسهم في تعزيز مواقع طرفَيه. فما كان ابن سلمان، لولا هذا الاتفاق، ليتمكّن من فرْض التراجع الكبير الذي سُجّل في موقف بايدن منذ تولّيه الرئاسة قبل عام ونصف عام، من رفض مجرّد اللقاء إلى توسّله. والتحالف قد يكون، في المقابل، واحداً من الأسباب التي شجّعت بوتين على خوض تلك الحرب المكلفة، حيث تكفَّل ارتفاع أسعار النفط بتعويض الخسائر المادّية الروسية وأكثر، فضلاً عن أن السعودية ما زالت تساير الرئيس الروسي في موقفها السياسي من الحرب، والذي لا يرقى إلى المعايير الحادّة التي تريدها الولايات المتحدة وأوروبا من الحلفاء.
وفي مقابل مناورات بايدن بشأن لقاءات جدة، تُمسك السعودية بالعلاقة مع روسيا كورقة قوّة لن تتخلّى عنها بسهولة، إلّا إذا كان في العروض الأميركية والإسرائيلية ما يغني ابن سلمان نهائياً عن تلك الورقة، وهذا يبدو حتى الآن صعباً. أمّا بالنسبة إلى التطبيع غير العلني (حتى الآن) مع إسرائيل، فهذا الرهان قائم بالنسبة إلى وليّ العهد السعودي، سواءً أغْناه تحسُّن العلاقات مع بايدن عن روسيا، أو بقِي على تحالفه النفطي مع بوتين. ويعبّر عن رغبة الأمير هذه ما ساقه الكاتب الإسرائيلي، أفي جوريش، حين كتب: «ذهبْت إلى المدينة المنورة الشهر الماضي وجلسْت على مرأى من القبّة الخضراء للمسجد. فقد أزال المسؤولون السعوديون اللافتات المكتوب عليها: للمسلمين فقط».