أعاد خطاب عبد الفتاح البرهان رسم خريطة طريق لِما تبقّى من المرحلة الانتقالية، وهي على النحو الآتي: أولاً، عدم مشاركة المؤسسة العسكرية في المفاوضات الجارية إفساحاً في المجال أمام القوى السياسية والثورية والمكوّنات الوطنية لتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، إلى جانب التزام القوات المسلحة بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني؛ ثانياً، أن يتبع تكوين هذه الحكومة التي لم تُفسَّر حدود صلاحياتها بطبيعة الحال، حلُّ «مجلس السيادة» وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة يتكوّن «من القوات المسلحة والدعم السريع»، ويكون مسؤولاً عن مهام الأمن والدفاع «وما يتعلّق بها من مسؤوليات تستكمل مهامه بالاتفاق مع الحكومة التي يجري تشكيلها». كما دعا البرهان، في خطابه، الشعب إلى التمسّك بالسلمية.واستبق الخطاب بساعات زيارة للرجل إلى العاصمة الكينية نيروبي، حيث يرأس اجتماعات «الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا – إيغاد»، والهادفة إلى «مناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك في الإقليم»، وفي مقدّمتها التوتر المتصاعد بين إثيوبيا والسودان. وعلى رغم جهود السكرتير التنفيذي للهيئة، ورقنه جيبييهو، لاستباق الاجتماع بزيارة للخرطوم وعقد لقاء تهدئة مع البرهان، ودعوته في وقت سابق «البلدَين الشقيقَين إلى البحث بنشاط عن وسائل دبلوماسية للتوصّل إلى حلّ دائم ومستدام»، فإن السودان رأى أن القمة تأتي في وقت حرج ومهم، وذلك على رغم خلوّ خطاب البرهان من الإشارة إلى سياساته الخارجية.
ولذا، أفاد رئيس «السيادي» من اختياره موعد حديثه، ليجدّد مواقفه في مواجهة الاعتداءات الإثيوبية المتكرّرة على المناطق الحدودية مع السودان، وسط سعيه إلى تقليص نفوذ أديس أبابا التقليدي في أوساط بعض قطاعات المكوّن المدني، فيما يُرتقب أن يلتقي رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في نيروبي.

«القوى المدنية» واستحقاقاتها
تركّزَ جزء كبير من خطاب «القوى المدنية» في الأسابيع الأخيرة، وبدعم من مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، فولكر بيرتيس، الذي استدعته الخارجية السودانية قبل أيام على خلفية تصريحاته بخصوص تظاهرات «20 يونيو» ومطالبته السلطات السودانية «بتفادي استخدام العنف»، على ضرورة استبعاد أيّ دور للجيش في الحكم، أو التفاوض معه. لكن خطاب البرهان، الذي أعلن رفض القوات المسلحة «الإقصاء السياسي»، ربّما يدفعها إلى مراجعة مواقفها السابقة، في سبيل التوصّل إلى أجندة أكثر واقعية. إلا أن وضع أجندة كهذه يبدو بالغ الصعوبة في ضوء اعتبارات عدّة؛ أبرزها استمرار حالة التشرذم بين القوى السياسية المعارضة؛ وتراجع قدرتها على الحشد الوطني خلف مواقفها، ولا سيما في الأطراف؛ وغياب الآلية الواضحة التي بمقتضاها ستنفّذ مخرجات الحوار، حتى بعد استكمال مفاوضات الآلية الثلاثية بين القوى المدنية؛ كما أن تفويض «حكومة الكفاءات الوطنية» سيكون محدوداً للغاية وأقرب إلى تسيير الأعمال، ريثما يتمّ الترتيب للمحطّة النهائية للمرحلة الانتقالية بإجراء انتخابات نيابية.
رفضت «قوى الحرية والتغيير» ما وصفته بالمناورة التكتيكية المكشوفة


في أيّ حال، فإن القوى المدنية أظهرت ارتباكاً في التعامل مع خطاب البرهان، فيما أعربت الأحزاب السياسية التقليدية الفاعلة حالياً، مثل «حزب الأمة القومي» و«الحزب الاتحادي»، عن ترحيبها بالخطاب، لكنها اختزلته بـ«خروج القوات المسلحة من الحكم». ويمكن ترجيح وجود احتمالَين خلف استجابة «قوى الحرية والتغيير» المضطربة: أولاً، توافقها على التريّث، وإعداد ردّ موحّد قد يتضمّن بنوداً محدّدة أيضاً بخصوص دورها في المرحلة الانتقالية؛ ثانياً، التواصل مع الأطراف الخارجية الفاعلة، أي رعاة الآلية الثلاثية، وعدد من الدول الإقليمية، لاستكشاف سيناريوات التعامل مع المستجدّات التي فرضها حديث البرهان.

تداعيات إقليمية
على رغم أن الخطاب لم يُعِر سياسات البلاد الخارجية أيّ إشارة، إلا أنه جاء في سياق مساعي «مجلس السيادة» للتعامل مع الضغوط التي تواجه البلاد، وأبرزها تعليق عملية إعفاء السودان من ديونه، والتوتر الحدودي مع إثيوبيا، ومحاولات تهميش مكانة الخرطوم الإقليمية.
ومن المتوقّع أن يؤدي الخطاب، والعملية السياسية التي قد تليه، إلى وقف الإجراءات العقابية في ملفّ الديون أو تأجيلها على الأقلّ حتى تتوفّر ضمانات تكوين «حكومة تنفيذية»، وربّما تجميد دول «نادي باريس» قرارها تعليق عملية إعفاء السودان من ديونه. كما يمثّل خطاب البرهان، في جزئيته المرتبطة برفض الإقصاء السياسي، تبايناً مع رؤية دول إقليمية، أبرزها الإمارات، لمشاركة التيار الإسلامي أو «فلول نظام عمر البشير» في أيّ عمليات سياسية، سواء في ما تبقّى من المرحلة الانتقالية أو ما بعدها. وعلى رغم وجود تفسيرات بأن هذا التوجّه «تكتيكي»، غير أنه يبدو توجّهاً استراتيجياً، أخذاً في الاعتبار دعم هذا التيار كل سياسات المكوّن العسكري، وقدرته على الحشد والتعبئة، فضلاً عن كونه قيمة مضافة للقوى العصبية والقبلية الأخرى الداعمة لسياسات العسكر. ويشير ذلك إلى استمرار قدرة البرهان على الإفلات من إملاءات خارجية مباشرة في الملفّ المشار إليه.
وبينما ربط معارضون سودانيون خطاب البرهان بما اعتبروه «السيناريو المصري» أو «المشورة المصرية»، فإن الصلة بين «السيادي» والقاهرة تتجاوز هذا التحليل الرمزي، بالنظر إلى خطورة الملفات المشتركة التي تواجه البلدين، والتي تدفع بدورها القاهرة إلى فتح آفاق الحركة أمام المجلس، ودعم أيّ حلول تفضي إلى إرساء الاستقرار السياسي في السودان، وضمان تعزيز قدرته التفاوضية في مواجهة أزماته المتعدّدة، وكذلك بعض الشروط العربية الاقتصادية لدعمه في مقابل استنزافه سيادياً على غرار نموذج الضغط الإماراتي لاستئجار أراضي منطقة الفشقة السودانية بالتعاون مع مستثمرين إثيوبيين، وهو ما تعتبره القاهرة، وإن بشكل غير معلَن، تهديداً مباشراً لأمنها القومي.

الإجابة «الثورية» على الخطاب
بعد الخطاب بوقت وجيز، أعلنت «لجان المقاومة» عدم ثقتها في «البرهان وخطاباته»، وشددت على رفضها القاطع لأجندته «حتى في ظلّ (ضمانات) المجتمع الدولي»، بينما بادرت «قوى الحرية والتغيير» إلى الإعلان عن عزمها على إصدار بيان عن مجلسها المركزي لتوضيح موقفها من الخطاب، ولا سيما أن ما ورد فيه بخصوص تكوين «حكومة تنفيذية» شكّل مساراً نشطاً في الآلية الثلاثية على الأقلّ منذ منتصف حزيران. وصدر البيان بالفعل ظهر أمس من مقرّ «حزب الأمة القومي»، ليرفض «المناورة المكشوفة» للبرهان وتراجعه التكتيكي، ويطالب بتنحّي «السلطة الانقلابية» (حلّ مجلس السيادة قبل تكوين الحكومة المدنية) وبإعلان دستوري جديد «يحدّد هياكل الانتقال وقضاياه»، معلِناً أن خطة «قوى الحرية والتغيير» الحالية هي مواصلة الاحتجاج السلمي وصولاً إلى العصيان المدني، وتكثيف التواصل مع «الأسرتَين الإقليمية والدولية»، معتبراً أن «السلطة الانقلابية تستخدم دعوات الحوار كمحاولات لشرعنة انقلابها وفكّ العزلة عنها وهو ما لم ولن تنجح فيه إطلاقاً».

سيناريوات «خريطة البرهان»
يبدو السودان أمام عدّة سيناريوات في الأشهر القليلة المقبلة، وأبرزها: المضيّ قدماً وفق «خريطة البرهان» وإكمال القوى السياسية (بعد ضغوط دولية وإقليمية) مشاوراتها بشأن تكوين حكومة تسيير الأعمال برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي و«إيغاد»، على أن يتبع ذلك الإعداد لانتخابات عامة في البلاد؛ وهو احتمال لا يبدو مستبعداً، ولا سيما في ظلّ الرعاية الأميركية - السعودية - المصرية للحوار بين العسكر و«الحرية والتغيير».
أمّا الاحتمال الثاني فهو تمسّك المعارضة بمواقفها المعلَنة الرافضة لأيّ دور للجيش في الحكم، أو في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني. ولكن إتيان هذا السيناريو بنتائج يتطلّب تماسكاً فائقاً بين مكوّنات المعارضة، وقدرة أكبر على حشد المواقف الشعبية بشكل دائم وليس لحظياً. وفي حال تعمُّق الاستقطاب بين «مجلس السيادة» والمعارضة، وما سيستتبعه من تحشيد متبادل، فإن سيناريو الفوضى الشاملة سيكون مطروحاً أيضاً.