لم يمنع الرفض الروسي - السوري الصريح، و«القلق» الأميركي، الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، من مواصلة الحديث عن عملية عسكرية قرب الشريط الحدودي لطرد مقاتلي «قسد»، وقضْم مناطق جديدة لضمّها إلى «المنطقة الآمنة» التي يسعى إلى فرضها كأمر واقع، بهدف استثمارها لاحقاً في الانتخابات الرئاسية من جهة، وإنشاء حزام سكاني بلا أكراد قرب حدود بلاده من جهة أخرى. في هذا الوقت، جدّد إردوغان حديثه عن عمليه عسكرية «كبيرة» هذه المرّة، أبعد من تل رفعت ومنبج في ريف حلب، في أعقاب موافقة تركيا على انضمام السويد وفنلندا إلى «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، بضغط من الولايات المتحدة، التي تحاول استمالة نظيرتها الأطلسية لزيادة عزلة روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا.ووسط هذه المتغيرات، حمل وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، خلال زيارته إلى دمشق، مجموعة من الأفكار حول سُبل يمكن اتباعها لإيجاد مخرج مناسب لكلا البلدين (سوريا وتركيا). وقبيل وصوله إلى العاصمة السورية حيث التقى الرئيس بشار الأسد، ووزير خارجيته فيصل المقداد، أكد عبد اللهيان أن بلاده لمست انفتاحاً تركيّاً لحلّ القضايا العالقة بالطُرق السياسية، وهو ما لمسه في دمشق أيضاً. ويعني ما تقدَّم، وجود أرضية يمكن البناء عليها لإجراء لقاءات سورية - تركية مباشرة لحلّ الخلافات، وفي مقدّمها وقْف الاعتداءات التركية والانسحاب من المناطق المحتلّة ووقف دعم المسلحين، في مقابل إبعاد «خطر الأكراد» عن الحدود التركية. وأعاد عبد اللهيان التذكير بعمق العلاقات الإيرانية - التركية من جهة، والإيرانية - السورية من جهة أخرى، والتي دخلت مرحلة أعمق بعد زيارة الأسد الأخيرة إلى طهران، في أيار الماضي.
وحتى وقتٍ قريب، كان الموقف الأميركي الداعم لـ«قسد» يشكلّ عائقاً، في ظلّ احتماء هذه الأخيرة بواشنطن، على الرغم من النتائج الكارثية لهذه «الرعاية»، والتي أدّت - في محصّلتها - إلى خسارة عفرين ومناطق أخرى في ريفَي حلب والرقة لمصلحة الأتراك، بعد رفض «الإدارة الذاتية» تسليمها إلى الجيش السوري. ولكن الموقف الأميركي الحالي يبدو أكثر تقبّلاً للتخلّي عن مناطق تسيطر عليها «قسد»، وخصوصاً تلك الخاضعة للإشراف الروسي في ريف حلب، مع عودة الدفء إلى العلاقات الأميركية - التركية، وإبداء واشنطن استعدادها إلى تسليم أنقرة طائرات «أف-35»، في ظلّ رغبة واشنطن في تقليص الدور الروسي في الشمال الشرقي من سوريا، ليأتي ردّ موسكو واضحاً، من أنها موجودة في سوريا بموجب دعوة من الحكومة الشرعية، وأنها لن تتدخّل إلّا في حال سيطرت دمشق على تلك المناطق.
المحاولة الإيرانية التي يقودها عبد اللهيان لا تعتبر الأولى في سياق فتح القنوات الديبلوماسية والأمنية السورية - التركية


وتزامناً مع زيارة الوزير الإيراني، صعّدت أنقرة من وتيرة قصفها لمناطق في تل رفعت ومنبج بالمدفعية، وعن طريق المسيّرات، في وقت أعلنت مصادر عسكرية سورية إسقاط مسيّرة استهدفت نقطة يتمركز فيها الجيش السوري، حيث قدمت دورية عسكرية روسية وقامت بتفقد الأضرار وفق ما ذكر مصدر ميداني، تحدّث إلى «الأخبار». وبخلاف المساعي التركية التي ترمي إلى السيطرة على المناطق السورية وقضمها تدريجاً، أبرزها في الوقت الحالي تل رفعت ومنبج، يفتح أيّ تقارب سوري - تركي الباب أمام حلّ قد يكون شاملاً لملفّات عالقة تمتدّ على طول الشريط الحدودي مع تركيا، بالإضافة إلى ملف طريق «M4» - أحد أبرز الطرق الدولية في سوريا، خصوصاً أن البلدين يشتركان في رفضهما الوجود الأميركي غير الشرعي في سوريا.
المحاولة الإيرانية التي يقودها عبد اللهيان لا تعتبر الأولى في سياق فتح القنوات الديبلوماسية والأمنية السورية - التركية، إذ سبقتها محاولات عدّة، سواء إيرانية أو حتى روسية، إلّا أنها لم تسفر عن نتائج ملموسة، بسبب استمرار أنقرة في «سياستها العدوانية». غير أن الجهود الإيرانية جاءت، هذه المرّة، مصحوبة برؤيا واضحة المعالم تستغلّ الظروف المحيطة، ومن بينها الرغبة التركية الكبيرة في التخلّص من عبء اللاجئين السوريين، ووضع حدٍّ للهجمات الكردية، من دون التورّط في مواجهات عسكرية تؤدّي إلى خسائر كبيرة، لا قدرة لإردوغان على تحمُّلها مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، وهي أمور يمكن دمشق أن تقوم بها عبر فرض سيادتها على المناطق التي تسيطر عليها «قسد»، وهو التوجّه ذاته الذي أعلنته موسكو سابقاً وتحاول تحقيقه. وبالإضافة إلى المساعي الإيرانية لتقريب وجهات النظر السورية - التركية، بدا لافتاً وصول عبد اللهيان إلى دمشق عبر مطارها الدولي، بعد إعادة تأهيله إثر تعرّضه لعدوان إسرائيلي، كما بدا لافتاً تزامن الزيارة مع عدوان بصواريخ تم إطلاقها من طائرات كانت تحلّق فوق البحر المتوسط استهدف «مداجن وأرضاً زراعية في محيط بلدة الحميدية جنوب طرطوس»، وفق وزارة الدفاع السورية التي ذكرت أيضاً أن العدوان تسبّب بإصابة مدنيين اثنين بجروح بالإضافة إلى خسائر مادية.
على أيّ حال، لا يمكن النظر إلى الجهود الإيرانية، في الوقت الحالي، على أنها مثمرة وستصل إلى نتيجة واضحة تفتح الباب أمام عودة التعاون الأمني السوري - التركي، إلّا أنها تمثّل خطوة مهمّة في طريق طويل.