غزة | ينفث ما تبقّى من سيجارته، ويستبق حديثه بتنهيدة: «الظلم الذي نعانيه تاريخي، رغم أنّنا لسنا مواطني درجة ثانية». يقول «أبو إياد» لـ»الأخبار»، ويكمل: «هُجّرنا قبل أكثر من 25 عاماً من بيوتنا المبنية من الصفيح، ومُنحنا الإذن بالاستقرار في هذه المنطقة، التي عمّرناها رغم كلّ ما يحيطها من برك صرف صحي ومجمّعات قمامة، لكننا اليوم نعود إلى المربّع الأول».و»القرية البدوية» أنشئت في عام 1997 على مساحة 800 دونم شمال قطاع غزة، في منطقة كانت تحدّها مستوطنات إسرائيلية من الشرق والغرب والشمال، بينما تحاصرها من الجنوب سلسلة من برك الصرف الصحي، وعدد من مكبّات القمامة، وكان سكّانها الذين يتجاوز عددهم حالياً الـ 6 آلاف نسمة، يسكنون سابقاً في أراضٍ أهلية، أي مملوكة بوثائق «طابو»، في تل الزعتر شمال القطاع، قبل أن يتمّ إخلاؤهم بقرار حكومي.
وبحسب الرجل الخمسيني الذي التقيناه في ديوان عائلة أحد المصابين خلال الأحداث الأخيرة، فقد بدأ الحدث يوم الخميس، في التاسع من الشهر الجاري، عندما توجّه عدد من سيارات سلطة الأراضي، مدعّمة بسيارة شرطة، إلى بيت عائلة «أبو حشيش» لمطالبتهم بإخلاء المنزل، لأن صاحبه خالف القرارات الحكومية، وبنى بيته من الاسمنت، علماً بأن الأراضي التي لم تتمّ تسوية أوضاعها القانونية مع «سلطة الأراضي» تسمح الأخيرة للمواطنين بالسكن فيها، من دون بناء عقارٍ عليها. يواصل الرجل سرد الرواية إلى «الأخبار»: «رفض توفيق أبو حشيش إخلاء منزله، وحصلت مشادة كلامية مع دورية الشرطة، ومن ثمّ اشتباك بالأيدي، واعتدى فيها أحد عناصر الشرطة على الشاب سند، وهو ابن صاحب البيت، وتطوّر الاشتباك إلى رشق بالحجارة على الدورية، وإطلاق الأخيرة الرصاص الحيّ في الهواء». ووفقاً لـ»أبو إياد»، فقد انسحبت الدورية، لكنها عادت إلى القرية بعدها بساعات، معزّزة بعدد من جيبات الشرطة، ترافقها جرافة، شرعت في هدم المنزل، كردّة فعل على الاشتباكات وعدم تجاوب العائلة مع القرار الحكومي. ويتابع: «مشهد الهدم استفزّ مشاعر السكان، فتجمّع المئات من الشباب لمساندة العائلة، ودارت اشتباكات واسعة، رشق فيها شباب أم النصر سيارات الأجهزة الأمنية بالحجارة، فيما ردّ عناصر الأمن بإطلاق الرصاص الحيّ، وقمع المحتجين بالضرب بالهراوات، ما تسبّب بإصابة سبعة شبان، إصابة أحدهم خطيرة، فضلاً عن اعتقال قرابة تسعين شاباً».
ليس بعيداً عن أمّ النصر، يقع حيّ بيسان الذي شهد أحداث شغب كبيرة. يقول أبو عاصم إن المئات من شبّان القرية هاجموا الحيّ الذي يسكنه عدد من العائلات الآمنة، ودمّروا سيارات السكّان وممتلكاتهم، واعتدوا على نقاط الشرطة ومقدّراتها. ويضيف، في حديث إلى «الأخبار»: «لم تَصدر منا أيّ إساءة لسكّان القرية، وكنّا لهم أفضل جيران، لكن ردّة الفعل أخذت منحى أكثر تعقيداً، ربّما عوقب سكّان الحيّ لأنهم مكوّن اجتماعي مغاير للسمة البدوية التي تغلب على المنطقة، وربّما ظنّوا أن جميع مَن يسكن الحيّ ينتمون إلى حزب واحد».

روايات متعدّدة
بالعودة إلى قصة المنزل المهدوم، يؤكد مصدر حكومي أن صاحب البيت تلقّى عدة إشعارات بمنع البناء، وإشعارات أخرى بوقف البناء، لكنّه لم يستجب لأيٍّ منها، مضيفاً إن المنزل الذي يبنيه مُقام على أرضٍ حكومية، والسماح بتجاوزه سيفتح الباب على التهام مزيد من الأراضي التي هي ليست ملكاً لأحد، إنّما مخزون الأجيال القادمة، مستدركاً بأن «الرئيس الجديد لسلطة الأراضي لم يحسن التصرّف، وأظهر أسلوباً صدامياً ومستفزّاً تجاه السكان، حيال أمر كان يمكن معالجته بطريقة أكثر رقياً وأخلاقاً».
مشاهد المواجهات وصور البيت المهدّم تسبّبت بموجة تضامن واسعة مع أهالي القرية


من جهته، يردّ «أبو سليمان»، وهو أحد أقرباء «أبو حشيش»، على الرواية الحكومية بالقول إن «العائلة الممتدّة كانت تسكن سابقاً في أرض زراعية، تسلّمتها من الحكومة مقابل أجرة سنوية، وأُخرجت منها، وحصلت في مقابل ذلك على قطعة الأرض التي بنت منزلها عليها، وهي تمتلك ورقة من البلدية تثبت أحقّيتها بالسكن، على رغم عدم تسوية كل الأوراق مع سلطة الأراضي». وينتقد «الحاج حماد»، بدوره، سياسة الكيل بمكيالَين التي تتبعها «سلطة الأراضي» في القطاع، معتبراً أنه «ليس من العدل أن تمنح الحكومة مئات الدونمات لموظفيها، وهي نفسها أراضي الأجيال، وتمنح قطعاً أخرى من الأرض لمصلحة جمعيات حزبية، بينما نُحرم نحن حقّنا في أن يكون لأحدنا منزل في بلدنا، ماذا سيفعل من يطرَد من مكان يؤويه، إلى الشارع، هل سيرمي الشرطة بالورود».

الحكومة تستدرك
مشاهد المواجهات التي استُخدم فيها الرصاص الحيّ في وجه السكّان، وصور البيت المهدّم والتي طافت مواقع التواصل الاجتماعي، تسبّبت بموجة تضامن واسعة مع أهالي القرية، وهو ما دفع «لجنة متابعة العمل الحكومي» إلى عقد اجتماع في ساعة متأخرة من يوم الخميس، أصدر عقبه عصام الدعاليس، وهو رئيس «اللجنة»، بياناً مصوّراً، وعد فيه بمحاسبة جميع المتسبّبين في تصاعد الأحداث على هذا النحو، كما ألغى عدداً من الإجراءات والحملات المنوي القيام بها، ومنها إجبار أصحاب «الموتسيكلات والتكاتك» على ترخيص مركباتهم، والحصول على رخصة قيادة، في خلال مدّة قريبة. كما أعلن إعادة النظر في الإجراءات الحكومية المتّبعة بحق التعدّيات على الأراضي، ولا سيما العائلات الفقيرة التي لا تمتلك مسكناً بديلاً سوى الأرض التي وضعت يدها عليها.
ووفقاً لمصدر في القرية، فإن الأجهزة الأمنية تحتجز حتى اللحظة 18 شاباً، على رغم مضيّ أسبوع على الأحداث، فيما شكّل الأهالي لجنة من المخاتير والوجهاء، ستتولّى متابعة الحلّ مع الأجهزة الأمنية وسلطة الأراضي.