للوهلة الأولى، يبدو كأن تبايناً ما برز بين تقديرات ومواقف رئيس أركان جيش العدو، غادي أيزنكوت، الذي حدد أن العدو المركزي للجيش هو حزب الله، وبين وزير الأمن موشيه يعلون، الذي أعلن أن إيران هي في مقدمة أعداء إسرائيل. الشبهة نفسها انسحبت على موقف أيزنكوت الذي رأى أن الاتفاق النووي مع إيران ينطوي على فرص إلى جانب التهديدات، في مقابل الموقف المعارض بشدة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لهذا الاتفاق. والمفارقة أن العديد من المعلقين في إسرائيل وخارجها وقعوا في هذا الفخ، من دون نفي إمكانية حصول تباينات واختلافات في التقدير والموقف بين القادة الإسرائيليين، لكن التدقيق في كلام هؤلاء يخلص إلى نتيجة مغايرة تماماً.
صحيح أن يعلون رأى أن إيران هي العدو الأول لإسرائيل منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 79، لكنه يدرك أيضاً أن إيران تترجم موقفها الرافض لأصل وجود إسرائيل عبر دعم قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، خاصة أنه ليس هناك حدود بين الدولتين. وطبقاً للخطاب السياسي والدعائي الإسرائيلي، ينظرون إلى حزب الله كأنه فرقة في الحرس الثوري الإيراني على حدود إسرائيل، إضافة إلى أن يعلون يدرك أن الانتصارات التي حققتها المقاومة في لبنان، وتحديداً في التحرير عام 2000، وانتصار 2006، كان للدعم الإيراني، إلى جانب السوري، دور أساسي في تحقيقه. وكما أن تحديد أولوية عداء أي طرف عادة ما تكون تمهيداً لرسم استراتيجيات عملانية لمواجهته، فإن جزءاً أساسياً من عناصر القوة التي يتمتع بها حزب الله يعود إلى الدعم المادي والعسكري الذي تقدمه الجمهورية الإسلامية إلى جانب الاحتضان الشعبي وتحالفاته.
توقّع رئيس أركان العدو أن تتدفق الأموال الإيرانية على لبنان وغزة قريباً

عموماً، يلاحظ أن بعض المعلقين الذين وقعوا في هذا الفخ، تجاوزوا ما أدلى به أيزنكوت نفسه، بعدما حدد أن حزب الله هو العدو المركزي للجيش الإسرائيلي، عندما أوضح في الكلمة نفسها أمام «مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي»، أن هناك «تهديداً مركزياً إضافياً (على إسرائيل) هو إيران»، متابعاً أنها تشنّ حرباً على إسرائيل بواسطة جهات تدور في فلكها مثل حزب الله. وعلى هذه الخلفية، يكون أيزنكوت تحدث عن تهديدين مركزيين هما حزب الله وإيران. ولكن بما أن الحزب هو الموجود على حدود إسرائيل، كان من الطبيعي أن يبني الجيش الإسرائيلي استعداداته لمواجهته تحديداً. وعلى ما تقدم، هل تستقيم مقولة إن حزب الله هو العدو المركزي لإسرائيل، ولا تكون جزءاً منها إيران التي تعتبر المصدر الأساسي لقدراته العسكرية؟
في ما يتعلق بإشكالية حديث أيزنكوت عن وجود فرص في الاتفاق النووي مع إيران إلى جانب التهديدات، ينبغي التوضيح أن الفرص التي عادة يشار إليها لدى مقاربة الاتفاق النووي الإيراني، تتصل بأمرين: الأول، زيادة المسافة الزمنية بين إيران وإنتاج القنبلة النووية، من بعض أسابيع إلى سنة. وهو ما رأى فيه أيزنكوت أنه يمنح إسرائيل وغيرها فرصة زمنية للاستعداد في مواجهة إيران النووية. ونتيجة ذلك، لم تعد «معالجة» البرنامج النووي الإيراني أمراً فورياً وملحاً في المرحلة المباشرة. والثاني، أنه يهيّئ الأرضية لمزيد من التقارب بين إسرائيل والسعودية وحلفائها من أجل رفع مستوى التنسيق والعلاقات إلى درجة التحالف على قاعدة مواجهة الأخطار المشتركة.
حول ذلك، ينبغي القول إن نتنياهو نفسه لا ينكر النتيجة المتصلة بإبعاد إيران عن إنتاج القنبلة لمدة سنة. ثم على مستوى التوصيف، هو أمر لا يحتاج إلى استدلال. لكن تحديد الموقف الواجب اتخاذه من مجمل الاتفاق وما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، يكون من صلاحيات المستوى السياسي. والخيار المعارض، الذي انتهجه نتنياهو خلال الأشهر الماضية، لا يعني أنه لا يدرك هذه النتائج. ولكنه كان يطمح ويراهن على سقف أعلى من ذلك، بل إن التقارير الإسرائيلية أكدت أيضاً أن الجيش كان يرى أن هناك إمكانية للتوصل إلى اتفاق أفضل بالنسبة إلى إسرائيل.
إلى جانب ذلك، فإن المستوى السياسي يقارب الاتفاق النووي، وغيره من القضايا، من زاوية أشمل وأوسع تأخذ في الحسبان كل الاعتبارات والتداعيات بما تنطوي عليه من تهديدات وفرص. أما دور المؤسسة العسكرية وبقية الأجهزة الأمنية، فهو عرض التقديرات وتقديم التوصيات التي يمكن للقيادة السياسية أن تتبنّاها أو ترفضها.
مع ذلك، قد لا يكون من مصلحة نتنياهو، في مرحلة من المراحل، التركيز على جوانب الفرص الكامنة في الاتفاق حتى لا يخدش السياسة الهجومية التي كانت تنتهجها الحكومة. ولكن هذا الأمر قبل أن يتحول الاتفاق إلى أمر واقع وليس الآن، وبعد رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران. أما عن ارتفاع فرص التقارب بين إسرائيل والسعودية، فينبغي التذكير بأن نتنياهو هو أكثر من بشّر ويروّج لهذا المفهوم، وعلى قاعدة مواجهة الأخطار المباشرة نفسها. ومن أبرز المحطات التي عززت هذا التقدير لدى القيادتين السياسية والعسكرية والاستخبارية في إسرائيل، رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، الأمر الذي سيمنحها مزيداً من القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية على مستوى المنطقة.
في السياق نفسه، ينبغي القول إن التهديدات الكامنة في هذا الاتفاق، والمتصلة بازدياد قوة إيران وانعكاسها على قوة حلفائها في المنطقة، حضرت بقوة لدى ايزنكوت وسائر الأجهزة الأمنية والعسكرية، وليس فقط لدى نتنياهو الذي رفع راية التحذير من هذه التداعيات. وفي الكلمة التي ألقاها أمام المؤتمر، أسهب ايزنكوت في الحديث عن هذا الجانب، ومن ضمن ما قاله إن إيران تشنّ حرباً على إسرائيل بواسطة جهات تدور في فلكها مثل حزب الله. وتوقع أن تصرف طهران، بعد رفع العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة عليها، مبالغ مالية أكبر إلى هذه الجهات خلال سنة أو سنتين، بما في ذلك صرف مبالغ لقوى في قطاع غزة بغية التأثير في أوساط السكان العرب في إسرائيل. ورأى كذلك أن طهران ستواصل مساعيها للحصول على أسلحة نووية، نظراً إلى كونها تعتبر نفسها قوة إقليمية عظمى وتسعى إلى تعزيز مكانتها في المنطقة على عدة مستويات، وشدّد على أنها لن تتخلى عن عدائها لإسرائيل.
على ضوء ما تقدم، يمكن الجزم بأن الطرفين، نتنياهو وايزنكوت، لم يختلفا في تشخيص وتقدير التهديدات ولا في تحديد الفرص الكامنة، لكن قارب كل منهما القضية من زاوية موقعه ودوره في صناعة القرار. نعم قد يكون هناك تباين. لكن على ضوء الاتفاق على تحديد التهديدات والفرص، هل كان من مصلحة إسرائيل أن تنطلق في حملة عدائية ومعارضة للاتفاق داخل الولايات المتحدة؟ وهل كان من مصلحتها أن تبدو معارضة للولايات المتحدة؟ وما هي نتائج وتداعيات ذلك على العلاقات الإسرائيلية والأميركية؟ هذا أمر... وتقدير التهديدات والفرص أمر آخر.