الخرطوم | يوماً بعد يوم، تزداد الأوضاع سوءاً في السودان، وسط فقدان أيّ بارقة أمل في حلّ سياسي يقي البلاد شرّ الفوضى الشاملة، بعد أكثر من 7 أشهر على انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، ونحو 5 أشهر على استقالة رئيس الحكومة، عبد الله حمدوك، مع تعذُّر تعيين بديل له حتى الآن. هذا الواقع كانت له ارتداداته على القطاعات الحكومية التي تشهد حالة من الانهيار شبه الكامل؛ فالبنك المركزي عاجز عن توفير مرتّبات الموظفين الحكوميين كافّة، فيما لم يجد حلّاً لذلك العجز سوى في استحداث وطباعة فئة نقدية جديدة بقيمة مليون جنيه. كما يعجز البنك عن توفير النقد الكافي لشراء المحاصيل الاستراتيجية، في حين لم يفِ البنك الزراعي بوعده بشراء القمح من الفلاحين بسعر يحقّق لهم ولو جزءاً يسيراً من الربح، وعرض عليهم أسعاراً منخفضة لا تكفي حتى لسداد مديونيتهم، الأمر الذي حملهم على بيع محاصيلهم إلى المصريين، في وقت يعاني فيه العالم من نقص في المخزون الاستراتيجي من القمح.تعامُل السلطات مع أزمة القمح إنّما يمثّل عيّنة من حالة الفشل التي وصل إليها السودان، وسط استمرار انسداد الأفق السياسي. وفيما يمضي العسكر في تشبّثهم في السلطة، لا تزال القوى السياسية على تفرُّقها، بل إن حالة الانقسام انتقلت إلى لجان المقاومة التي تقود الحراك في الشارع، على خلفيّة مواقف أعضاء الأحزاب المنضوين فيها. وفي ظلّ هذا الوضع، يبدو لافتاً سعْي العسكر إلى الانتظام في إطار عملية سياسية تستهدف خلْق توافق يكونون هم جزءاً منه، وذلك تمهيداً لاكتساب الشرعية عبر صناديق الانتخابات. وفي هذا الإطار، يصف متابعون إعلان قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، رفع حالة الطوارئ، قبل أيام، بأنه «مناورة سياسية الغرض منها كسب نقطة إزاء المجتمع الدولي، باعتبار أن القرار يهيّئ الأجواء للحوار السياسي، ويعكس جدّية العسكر في الدخول في عملية سياسية تعيد المسار الديموقراطي». ويلفت هؤلاء إلى أن هذا الإعلان لم يوقف حالات العنف المفرط والقتل والاعتقالات التي تمارسها السلطات ضدّ المتظاهرين.
أعلنت «قوى الحرية والتغيير» مقاطعتها الاجتماع المباشر الذي تنظّمه الآلية الثلاثية اليوم


وجاءت هذه الخطوة في وقت كانت فيه الآلية الثُلاثية التي تضمّ الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي و«الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بالتنمية» (إيغاد)، المعنيّة بتسهيل الحوار بين الفرقاء السودانيين، تعقد اجتماعات مع اللجنة العسكرية تمهيداً لهذا الحوار، لتُعلِن في أعقاب ذلك موافقة العسكر على الدخول في حوار مباشر يُفترض أن ينطلق اليوم. لكن «قوى الحرية والتغيير» (المجلس المركزي)، الحاضنة السياسية للحكومة المدنية السابقة، أعلنت مقاطعتها الاجتماعات المباشرة، مشدّدةً في بيان على ضرورة أن «تؤدّي أيّ عملية سياسية إلى إنهاء الانقلاب بصورة كاملة وإقامة سلطة مدنية ديموقراطية»، وهو الموقف نفسه الذي أبلغته لمساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، مولي فيي، التي تزور السودان حالياً، داعيةً إلى النأي بالجيش عن السياسة وإجراء إصلاح أمني شامل يقود إلى بناء جيش قومي مهني واحد. وطالبت «الحرية والتغيير»، في رؤيتها التي سلّمتها للآلية الثلاثية، بـ«تأسيس مسار دستوري جديد عبر ثلاث مراحل، الأولى تشمل قوى الثورة وقادة الجيش ويكون هدفها إنهاء الانقلاب، والثانية تضمّ قوى الثورة وقادة الجيش والحركات المُوقّعة على اتفاق السلام لتأسيس وضع دستوري جديد، فيما الثالثة تشمل أوسع قاعدة من الأطراف السودانية وتنتهي بالحوار الدستوري». وهي إذ أيّدت الإبقاء على «مجلس السيادة»، إلّا أنها دعت إلى أن يكون محدود العدد، مُطالبة بقيام مجلس وزراء «يُعيَّن رئيسه بواسطة قوى الثورة»، ومجلس تشريعي تُمثَّل فيه النساء بنسبة 40%. واشترطت حصْر العملية السياسية بـ«قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة وقوى الكفاح المسلّح المُوقِّعة وغير المُوقِّعة على اتفاق جوبا، بالإضافة إلى القوى السياسية والمدنية التي كانت جزءاً من قوى الحرية والتغيير في 11 نيسان 2019 وخرجت لاحقاً».
وأتت رؤية «الحرية والتغيير»، المعلَنة الأحد الماضي، في وقت واصلت فيه مولي في زيارتها للسودان، والتي تنتهي اليوم، بهدف تسهيل عمل البعثة الأممية التي كان مجلس الأمن وافق على تمديد مهمّتها برئاسة الألماني فولكر بيرتس. ويرى متابعون أن استمرار رئاسة فولكر للبعثة الأممية التي تترأّس عمل الآلية الثُلاثية، من شأنه تعقيد مساعي العسكر للخروج بأكبر المكاسب السياسية الممكنة من الحوار، على رغم أن ممثّل الاتحاد الأفريقي في الآلية، الموريتاني ولد لبات، يُظهر انحيازاً واضحاً إليهم، على غرار الدور الذي أدّاه في عام 2019، ونتجت منه الشراكة غير المتكافئة بين العسكر والمدنيين.